في ذكرى سقوط الخلافة… درس وعبرة

في ذكرى سقوط الخلافة… درس وعبرة

أحمد محمد عمرو

ضَـجَّـتْ علـيـكِ مآذنٌ ومـنابرٌ              وبَـكتْ عليـكِ ممالـكٌ ونـَـــواحِ

الهـندُ والهـةٌ ومصــرُ حـزينة ٌ              تـَبْـكي عليـكِ بمَدمَـعٍ سَحّــــاحِ

والشّامُ تسْألُ والعِراقُ وفَارسٌ              أَمَحَا من الأرضِ الخلافةَ ماحِ؟

بمثل تلك الأبيات خرجت حروف أبيات أحمد شوقي تبكي صرح الخلافة الذي انهدم.

في يوم لم تشهد الأمة بعد وفاة رسولها صلى الله عليه وسلم يومًا مثله.

ففي السابع والعشرين من شهر رجب لسنة 1342 هـ، الموافق للثالث من مارس لسنة 1924م، وقعت أكبر جريمة في حق المسلمين، حيث تمكنت الدول الأوروبية بقيادة بريطانيا بواسطة عميلها “مصطفى كمال أتاتوك” من إلغاء دولة الخلافة العثمانية الإسلامية، ولم تخرج الجيوش البريطانية المحتلة لمضيق البوسفور وإستانبول العاصمة إلا بعد أن اطمأنت من إسقاط دولة الخلافة، وإقامة الجُـمهورية العلمانية على أنقاضها، وإخراج الخليفة من البلاد.

ـ وبسقوطها سقطت مفاهيم الدولة المبنية على المبادئ والقيم الرفيعة والأخلاقيات، وحلَّت محلها المفاهيم المبنية على المصالح والأهواء والماديات.

ـ سقطت دولة الخلافة وبسقوطها سقطت آخر دولة خلافة للمسلمين، لم يتبق للأمة الإسلامية منذ ذلك التاريخ دولة حقيقية تمثلهم، ولم يعودوا يحيون في جماعة إسلامية يقودها خليفة مبايع شرعًا على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ـ سقطت دولة الخلافة وبسقوطها سقط ظل دار الإسلام من على الأرض، الذي كان يظل كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

مقدمة لابد منها

الدولة العثمانية 699 ـ 1343 هـ: العثمانيون من الشعب التركي، وأصلهم من بلاد التركستان، نزحوا أمام اكتساح جنكيز خان لدولة خوارزم الإسلامية، بزعامة سليمان الذي غرق أثناء عبوره نهر الفرات سنة 628 هـ فتزعم القبيلة ابنه أرطغرل الذي ساعد علاء الدين السلجوقي في حرب البيزنطيين فأقطعه وقبيلته قطعة من الأرض في محاذاة بلاد الروم غربي دولة سلاجقة الروم. وهذه الحادثة حادثة جليلة تدل على ما في أخلاقهم من الشهامة والبطولة. ويعتبر عثمان بن أرطغرل هو المؤسس الأول للدولة العثمانية، وبه سميت، عندما استقل بإمارته سنة 699 هـ وأخذت هذه الإمارة على عاتقها حماية العالم الإسلامي، وتولت قيادة الجهاد، وأصبحت المتنفس الوحيد للجهاد، فجاءها كل راغب فيه.

وفي عام 923 هـ انتقلت الخلافة الشرعية لسليم الأول بعد تنازل المتوكل على الله آخر خليفة عباسي في القاهرة… وبهذه العاطفة الإسلامية المتأججة في نفوسهم ممتزجة بالروح العسكرية المتأصلة في كيانهم، حملوا راية الإسلام، وأقاموا أكبر دولة إسلامية عرفها التاريخ في قرونه المتأخرة… وبقيت الحارس الأمين للعالم الإسلامي أربعة قرون، وأطلقوا على دولتهم اسم (بلاد الإسلام) وعلى حاكمها اسم (سلطان) وكان أعز ألقابه إليه (الغازي) أي: المجاهد.

وحكموا بالعدل وعملوا بالشرع الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى لتكوين هذه الدولة… ووسعوا رقعة بلاد الإسلام شرقاً وغرباً واندحرت الأطماع الصليبية أمامهم وحقق الله على أيديهم هزيمة قادة الكفر والتآمر على بلاد المسلمين وارتجفت أوروبا خوفاً وفزعاً من بعض قادتهم أولئك الذين كانت الروح الإسلامية عندهم عالية.. وكانت روح الانضباط التي يتحلى بها الجندي عاملاً من عوامل انتصاراتهم وهي التي شجعت محمد الثاني على القيام بفتوحاته.

وكانت غيرتهم على الإسلام شديدة وكثر حماسهم له، لقد بدءوا حياتهم الإسلامية بروح طيبة وساعدتهم الحيوية التي لا تنضب؛ إذ إنهم شعب شاب جديد لم تفتنه مباهج الحياة المادية والثراء، ولم ينغمس في مفاسد الحضارات المضمحلة التي كانت سائدة في البلاد التي فتحوها، ولكنهم استفادوا منها فأخذوا ما أفادهم، وكانت عندهم القدرة على التحكم والفتح والانتصار وقد أتقنوا نظام الحكم وخاصة في عصر الفاتح، إذ كان هناك نظام وضع لاختيار المرشحين لتولي أمور الدولة بالانتقاء والاختيار والتدريب والثقافة، كما كانوا يشددون في اختيار من تؤهله صفاته العقلية والحسية ومواهبه الأخرى المناسبة لشغل الوظائف، وكان السلطان رأس الحكم ومركزه وقوته الدافعة وأداة توحيده وتسييره، وهو الذي يصدر الأوامر المهمة والتي لها صبغة دينية، وكان يحرص على كسب رضاء الله وعلى احترام الشرع الإسلامي المطهر.

فكان العثمانيون يحبون سلاطينهم مخلصين لهم متعلقين بهم فلم يفكروا لمدة سبعة قرون في تحويل السلطة من آل عثمان إلى غيرهم. ولكن الأمور لم تستمر على المنهج نفسه والأسلوب الذي اتبعوه منذ بزوغ نجمهم في صفحات التاريخ المضيء فقد بدأ الوهن والضعف يزحف إلى كيانهم.

لماذا الحديث عن هذه الذكرى

لم تكن ذكرى سقوط الخلافة في يوم من الأيام ذكرى دينية بالمعنى الشرعي، وإن كانت تتعلق بأعظم واجبات الدين ألا وهو وجوب إقامة الدولة الإسلامية لتطبيق الشرع، ولا هي ذكرى احتفالية يرجى من ورائها أن نتجرع كأس الألم والحسرة. لكنها ذكرى أردت من الحديث عنها.

أولاً: إشاعتها بين السواد الأعظم من المسلمين. وتعريف المسلمين بأهمية هذا الواجب الذي وصفه القلقشندي: بـ “حظيرة الإسلام، ومحيط دائرته، ومربع رعاياه، ومرتع سائمته، والتي بها يحفظ الدين ويُحمى، وبها تُصان بيضة الإسلام، وتسكن الدهماء، وتقام الحدود فتمنع المحارم عن الانتهاك، وتُحفظ الفروج فَتُصان الأنساب عن الاختلاط، وتُحصن الثغور فلا تطرق، ويُذاد عن الحُرَمِ فلا تُقرع”. تلك المعاني التي افتُقدت فعلاً هذه الأيام واختفت بسقوط دولة الخلافة.

ثانيًا: إثارة نوازع الوحدة بين الشعوب المسلمة مع اختلاف مشاربها وأقطارها، ومع اختلاف أحزابها وتجمعاتها.

ثالثًا: تحريك الغافلين من أجل العمل لهذا الدين، واستعادة مجده.

رابعًا: ربط الأجيال الجديدة بماضيها التليد، وأن الحديث عن مجد هذه الأمة لا يرتبط فقط بعصر الصحابة وما تبعه. بل لنا في العصر الحديث أيضًا ماض يفتخر به.

خامسًا: إثارة الغبار عن تاريخ نُسي أو نُسِّي، ودعوة لنشر هذا التاريخ وتدريسه للتلاميذ في المدارس، و طلبة العلمفي المساجد، وهو تاريخ السلاطين العثمانيين الذين أقاموا دولة عاشت أكثر من ستة قرون، وامتدت رقعتها الجغرافية إلى آسيا وأوروبا وإفريقيا، وكانت جيوشها أكثر جيوش العالم عددًا وأحسنها تدريبًا وتسليحًا وتنظيمًا، فقد عبرت جيوش هذه الدولة الفتية البحر من الأناضول إلى جنوبي شرق ووسط أوروبا، وفتحت بلاد اليونان، وبلغاريا، ورومانيا، ويوغسلافيا، والمجر، ورودس، وكريت، وقبرص، وألبانيا حتى بلغت مشارف فيينا ـ عاصمة النمسا ـ وجنوبي إيطاليا؛ فكانت أول دولة إسلامية تصل إلى هذا العمق في الأرض الأوروبية.

سادسًا: توعية المسلمين بطبيعة المرحلة، ومحاولة تسليحهم بالثقافة الإسلامية، والفقه السياسي المتشبع بالنظرة الشرعية للأمور، لا ترهات الديمقراطية، والحرية…

سابعًا: الاستفادة من الماضي، واستهلام السنن الإلهية في النصر والتمكين، واستخلاص الدروس والعبر مما قد يفيد في استشراف المستقبل بالتخطيط المتزن، تحقيقًا لوعد الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

الدروس والعبر

1ـ إن التمكين في الأرض لأي طائفة كانت أو فئة إنما هو هبة من الله تعالى ونعمة، وضع الله له شروطًا ومقدمات لا يقوم إلا بها، فإذا استوفت أمة من الأمم الشروط والمقدمات، استحقت التمكين والغلبة والظهور، ويظل بقاؤها واستمرارها على هذا التمكين مرهونًا بهذه الأسباب ذاتها، فإذا فقدت شيئًا منها، أو أخلت بها فقدت عوامل البقاء، وانحدرت إلى هاوية الذل والهوان والضعف. وهذا ما حدث مع بني عثمان، فلما دب فيهم الضعف والهوان والبعد عن منهج الله وصار الظلم والبذخ عادة سلاطينهم نزع الله ما في أيديهم.

2ـ التخطيط والتدبير: فقد قابل المسلمون سقوط الخلافة بردات فعل عاطفية، في حين دبر الأعداء وخطط لإسقاطها عشرات السنين حتى تمكنوا منها.

3ـ تفسير الأمور و الأحداث التي تطال الأمة، تفسيرًا شرعيًا بعيدًا عن خزعبلات العلمانيين والمتشدقين؛ فالحروب والوقائع والأحداث التي تمر بالأمة، كلها صور من صور الصراع بين الحق والباطل، بين الإسلام والكفر، بين الهدى والضلال، وقراءة التاريخ تريك ذلك رأي العين.

4ـ أن قوة المسلمين في توحدهم وتماسكهم، ولذلك سعت الدول الأوروبية وحرصت على تفكيك وحدة المسلمين.

5 ـ أن الخلافة هي الإطار السياسي الشامل الذي يجمع كلمة المسلمين ويوحدهم ويضمن لهم القوة والتماسك ويعمل على إقامة الدنيا، وحراسة الدين.

6ـ الاهتمام بالتربية، والإعداد الإيماني قبل الخوض في مقارعة الباطل، ذلك أن الاهتمام بالجانب المادي وحده قد يؤدي إلى نصر سريع لكنه يحتاج بعد ذلك إلى نوع آخر من الإعداد يستطيع الوقوف أمام المغريات، ولا يتأتى هذا إلا بتربية عميقة.

7ـ صفاء المعتقد، والتصورات وفق مذهب أهل السنة والجماعة، والأخذ على يد المبتدعة والفرق الضالة، فلقد اكتفى العثمانيون بالإسلام بمفهومه العام وغطوا الطرف عن الفرق الباطنية التي كان لها أكبر الأثر في سقوط الخلافة في النهاية.

8 ـ العزة والنصر والسؤدد كلها في الإسلام، وهذا من أعظم الدروس المستفادة من سقوط الخلافة.

فبعد أكثر من ثماني قرون قطعت تركيا صلتها بالعالم الإسلامي، وألغت الخلافة الإسلامية، واختارت لها دستورًا مدنيًا بدلاً من الدستور العثماني المستمدة أحكامه من الشريعة الإسلامية، وألغت وزارتي الأوقاف والمحاكم الشرعية، وحوّلت المدارس الدينية إلى مدنية، وأعلنت أنها دولة علمانية، وأغلقت كثيرًا من المساجد.، وصدر قانون يحكم بالإعدام على من يتآمر لعودة الخلافة.

وها هو “أتاتورك” ـ أول رئيس تركي ومن ألغيت على يده الخلافة ـ يجوب تركيا لابسًا القبعة الإفرنجية، وشرع قانونًا لنزع حجاب المرأة المسلمة، وكان نزع الحجاب يتم بالإرهاب والإهانة في الطرقات، فكانت الشرطة إذا رأت امرأة متحجبة تقوم بنزع حجابها فورًا وبالقوة.

وألغى التعامل باللغة العربية، وألغى العيدين، وجعل عطلة الأسبوع يوم الأحد، وعطلت الصلوات بمسجد أيا صوفيا، وأُسكت المؤذنون، وتحول المسجد إلى متحف وبيت أوثان، حتى الآيات التي كانت على جدرانه أمر بطمسها.

في سنة 1926م ألغى الزواج الشرعي، وجعله مدنياً فقط، وأصدر قانوناً يمنع تعدد الزوجات، واستبدل التقويم الهجري بالتقويم الميلادي.

ولكن رغم كل هذا ـ والذي يحلم كثير من علمانيينا بتحقيق نصفه ويعدونا بالتقدم إن سرنا على نهجهم ـ ها هي تركيا (العلمانية) ما زالت حتى يومنا هذا غير مرغوب فيها أوروبيًا، وترزح تحت نير الفقر والضعف ولم تلحق بركب التقدم، ففقدت الدولة مجدها القديم ولم تستطع تحقيق مجد جديد.

فحريٌّ بالمسلمين جميعًا على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم وأحزابهم، أن يقفوا عند هذه الذكرى، ويتأملوا فيها، لتصبح عودة الخلافة مطلبًا جماهيريًا، ولتكن الصحوة الإسلامية أول من يطالب بعودتها، ثم يشارك كل فرد ولو بنصيب قليل في هذا الفضل العظيم، لإبراء ذمته أمام الله.

 

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة