التابعية

المادة 5: جميع الذين يحملون التابعية الإسلامية يتمتعون بالحقوق ويلتزمون بالواجبات الشرعية.

المادة 6: لا يجوز للدولة أن يكون لديها أي تمييز بين أفراد الرعية في ناحية الحكم والقضاء أو رعاية الشؤون أو ما شاكل ذلك، بل يجب أن تنظر للجميع نظرة واحدة بغض النظر عن العنصر أو الدين أو اللون أو غير ذلك.

هاتان المادتان وضعتا لبيان أحكام من يحملون التابعية الإسلامية، سواء أكانوا مسلمين أم كانوا من أهل الذمة. أما المسلمون فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد جعل المسلمين الذين يعيشون خارج الدولة ولا يكونون من رعاياها محرومين مما يتمتع به رعايا الدولة. فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين) رواه مسلم. فهذا الحديث صريح بأن من لا يتحول إلى دار الإسلام ويحمل تابعية الدولة فإنه لا يملك حقوق الرعوية حتى لو كان مسلماً. فقد دعاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأن يدخلوا تحت سلطان الإسلام حتى يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، إذ يقول: (ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين) فهذا نص يشترط التحول ليكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، أي لتشملهم الأحكام. ومفهوم الحديث أنهم إن لم يتحولوا لا يكون لهم ما للمهاجرين، أي ما لمن هم من دار الإسلام، فإن هذا الحديث قد بين اختلاف الأحكام بين من يتحول إلى دار المهاجرين وبين من لا يتحول إلى دار المهاجرين، ودار المهاجرين كانت هي دار الإسلام، وما عداها كان دار كفر. وإقامة الشخص في دار الإسلام أو في دار الكفر هي ما يعبر عنه بالتابعية. فتابعية الشخص معناها الدار التي رضيها مقاماً له، هل هي دار كفر أم دار إسلام. فإن كانت دار إسلام انطبق عليها أحكام دار الإسلام، فيكون الشخص حاملاً للتابعية الإسلامية، وإن كانت الدار دار كفر انطبقت عليها أحكام دار الكفر؛ فلا يعتبر الشخص حاملاً للتابعية الإسلامية، وتطبق عليه أحكام دار الكفر؛ ولهذا لا تشمل الأحكام المسلم الذي في دار الحرب، فلا يعطى حق الرعوية؛ لأنه لا يحمل تابعية الدولة الإسلامية. وتشمل الأحكام الذمي الذي في دار الإسلام فيعطى حق الرعوية ويحمل تابعيتها. والذمي هو كل من يتدين بغير الإسلام وصار من رعية الدولة الإسلامية وهو باق على تدينه بغير الإسلام. والذمي مأخوذ من الذمة وهي العهد، فلهم في ذمتنا عهد أن نعاملهم حسب ما صالحناهم عليه، وأن نسير في معاملتهم ورعاية شؤونهم حسب أحكام الإسلام. وقد جاء الإسلام بأحكام كثيرة لأهل الذمة ضمن لهم فيها حقوق الرعية وواجباتها. وأن أهل الذمة لهم ما لنا من الإنصاف، وعليهم ما علينا من الانتصاف. أما أن لهم ما لنا من الإنصاف فذلك آت من عموم قوله تعالى: ((وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)) [النساء: 58] وقوله جل شأنه: ((وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)) [المائدة: 8] وقوله عن الحكم بين أهل الكتاب: ((وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)) [المائدة: 42]. وأما أن عليهم ما علينا من الانتصاف فذلك آت من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يوقع العقوبة على الكفار كما يوقعها على المسلمين، فقد قتل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يهودياً عقوبة على قتله امرأة، كما في رواية البخاري عن أنس بن مالك قال: (خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة قال فرماها يهودي بحجر قال فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبها رمق فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلان قتلك فرفعت رأسها فأعاد عليها قال فلان قتلك فرفعت رأسها فقال لها في الثالثة فلان قتلك فخفضت رأسها فدعا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتله بين الحجرين)، وأتي له عليه الصلاة والسلام برجل وامرأة يهوديين قد زنيا فرجمهما، روى البخاري عن ابن عمر قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيهودي ويهودية قد أحدثا جميعاً فقال لهم ما تجدون في كتابكم قالوا إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبيه قال عبد الله بن سلام ادعهم يا رسول الله بالتوراة فأتي بها فوضع أحدهم يده على آية الرجم وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له بن سلام ارفع يدك فإذا آية الرجم تحت يده فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجما). ولأهل الذمة علينا من الحماية ما للمسلمين، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا من قتل نفساً معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً)، رواه الترمذي وقال حسن صحيح. وقد رواه البخاري بلفظ (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً) ولأهل الذمة من رعاية شؤونهم، وضمانة معاشهم ما للمسلمين، عن أبي وائل عن أبي موسى أو أحدهما بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني) رواه البخاري من طريق أبي موسى. قال أبو عبيد: “وكذلك أهل الذمة يجاهد من دونهم، ويفتك عناتهم، فإذا استنقذوا رجعوا إلى ذمتهم وعهدهم أحراراً، وفي ذلك أحاديث” وعن ابن عباس قال: صالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل نجران، ومما جاء في الحديث: كما أخرجه أبو داود في سننه: “على أن لا تهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قس، ولا يفتنوا عن دينهم ما لم يحدثوا حدثاً أو يأكلوا الربا”. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعود مرضاهم روى البخاري عن أنس قال: (كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إليه أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار) مما يدل على جواز زيارتهم ومجاملتهم وإدخال الأنس عليهم. وأخرج البخاري عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه كان في وصيته عند موته: “وأوصي الخليفة من بعدي بكذا وكذا، وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم”. ويترك الذميون وما يعتقدون وما يعبدون لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه أبو عبيد في الأموال من طريق عروة قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل اليمن أنه: (من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها، وعليه الجزية). ولا يؤخذ من الذميين ضرائب “جمارك” كما لا يؤخذ من المسلمين. وأخرج أبو عبيد في الأموال عن عبد الرحمن بن معقل قال: سألت زياد بن حدير من كنتم تعشرون؟ قال: ما كنا نعشر مسلماً ولا معاهداً. قلت: فمن كنتم تعشرون؟ قال: تجار الحرب كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم”، والعاشر هو الذي يأخذ ضريبة الجمارك. وهكذا يكون الذميون رعية الدولة الإسلامية كسائر الرعية لهم حق الرعوية، وحق الحماية، وحق ضمان العيش، وحق المعاملة بالحسنى، وحق الرفق واللين، ولهم أن يشتركوا في جيش المسلمين ويقاتلوا معهم ولكن ليس عليهم واجب القتال، ولا واجب المال سوى الجزية فلا تفرض عليهم الضرائب التي تفرض على المسلمين، وينظر إليهم أمام الحاكم والقاضي وعند رعاية الشؤون وحين تطبيق المعاملات والعقوبات كما ينظر للمسلمين دون أي تمييز، فيتمتع الذمي بما له من حقوق تماماً كالمسلم سواء بسواء، ويلتزم بالواجبات التي عليه من الوفاء بعهد الذمة والطاعة لأوامر الدولة.

وهكذا فإن العبرة في الرعاية هي بتابعية الدولة، سواء أكان مسلماً أم من أهل الذمة، فلا يجوز أن يحصل أي تمييز في الرعاية؛ وذلك لعموم أدلة الحكم والقضاء ورعاية الشؤون فالله يقول: ((وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)) [النساء: 58]. فهو عام لكل الناس مسلمين وغير مسلمين، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) أخرجه البيهقي بسند صحيح. وهو عام يشمل المسلم وغير المسلم. وعن عبد الله بن الزبير قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحكم) أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم. وهو عام يشمل كل خصمين مسلمين أو غير مسلمين، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته) متفق عليه. وكلمة رعيته عام يشمل جميع الرعية مسلمين وغير مسلمين. وهكذا جميع الأدلة العامة مما يتعلق بالرعوية تدل على أنه لا يجوز أن يحصل أي تمييز بين المسلم وغير المسلم، ولا بين العربي وغير العربي، ولا بين الأبيض والأسود، بل جميع الناس الذين يحملون التابعية الإسلامية سواء من غير أي تمييز بينهم أمام الحاكم من حيث استحقاق رعاية شؤونهم وحفظ دمائهم وأعراضهم وأموالهم، وأمام القاضي من حيث التسوية والعدل.

 

المادة 7: تنفذ الدولة الشرع الإسلامي على الجميع الذين يحملون التابعية الإسلامية سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين على الوجه التالي:

أ- تنفذ على المسلمين جميع أحكام الإسلام دون أي استثناء.
ب- يترك غير المسلمين وما يعتقدون وما يعبدون ضمن النظام العام.
ج- المرتدون عن الإسلام يطبق عليهم حكم المرتد إن كانوا هم المرتدين، أما إذا كانوا أولاد مرتدين وولدوا غير مسلمين فيعاملون معاملة غير المسلمين حسب وضعهم الذي هم عليه من كونهم مشركين أو أهل كتاب.
د- يعامل غير المسلمين في أمور المطعومات والملبوسات حسب أديانهم صمن ما تجيزه الأحكام الشرعية.
هـ- تفصل أمور الزواج والطلاق بين غير المسلمين حسب أديانهم، وتفصل بينهم وبين المسلمين حسب أحكام الإسلام.
و- تنفذ الدولة باقي الأحكام الشرعية وسائر أمور الشريعة الإسلامية من معاملات وعقوبات وبينات ونظم حكم واقتصاد وغير ذلك على الجميع، ويكون تنفيذها على المسلمين وعلى غير المسلمين على السواء، وتنفذ كذلك على المعاهدين والمستأمنين وكل من هو تحت سلطان الإسلام كما تنفذ على أفراد الرعية، إلا السفراء والرسل ومن شاكلهم فإن لهم الحصانة الدبلوماسية.

إن الإسلام جاء لجميع الناس، قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)) [سبأ: 28] وكما أن الكافر مكلف بالأصول، أي بالعقيدة الإسلامية، فكذلك هو مكلف بالفروع أي بالأحكام الشرعية، أما كونه مكلفاً بالأصول فصريح في آيات القرآن الكريم، وأما كونه مكلفاً بالفروع فلأن الله قد كلفه صراحة ببعض الفروع، منها أن الآيات الآمرة بالعبادة متناولة لهم، كقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)) [البقرة: 21] وقوله تعالى: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)) [آل عمران: 97] ونحو ذلك، ومنها أنهم لم يكونوا مكلفين بالفروع ما أوعدهم الله تعالى عليها، والآيات الموعدة بتركها أي بسبب تركها كثيرة، منها قوله تعالى: ((وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)) [فصلت: 6-7]، وقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً )) [الفرقان: 68] وقوله تعالى: ((مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ )) [المدثر: 42-43]، فثبت كونهم مكلفين ببعض الأوامر وبعض النواهي فكذلك سائر الأوامر والنواهي. وأيضاً فإن الآيات التي جاء التكليف بها بالفروع جاءت عامة، والعام يجري على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص، ولم يأت دليل يخصها بالمسلمين فتظل عامة. من ذلك قوله تعالى: ((وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)) [البقرة: 275]، وقوله تعالى: ((فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)) [الطلاق: 6]، وقوله تعالى: ((فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)) [البقرة: 283]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرض ميتة فهي له) أخرجه أحمد والترمذي بسند صحيح من طريق جابر. وقوله عليه الصلاة والسلام: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) أخرجه أحمد بإسناد صحيح من طريق سمرة بن جندب، إلى غير ذلك من الأحكام. وهذا دليل صريح على أنهم مكلفون بالفروع. وأيضاً فإن التكليف بالأصل تكليف بالفرع، والتكليف بالكل تكليف بالجزء، فالتكليف بالصلاة تكليف بالركعة والقراءة والقيام.. الخ. والكافر مكلف بالأصل فهو مكلف بالفرع. وأما عدم جواز بعض الفروع منهم كالصلاة والصوم فلأن شرطها الإسلام، فلا تصح حتى يتحقق الشرط، ولكن ذلك لا يعني أنها ليست واجبة عليهم، وأما عدم طلب بعض الفروع منهم كالجهاد، مع أن الإسلام ليس شرطاً في أدائه فلأن الجهاد قتال الكفار لكفرهم، والذمي كافر فيمتنع أن يقاتل الكفار لكفرهم، وإلا جاز أن يقاتل نفسه، ولذلك لم يكن مطالباً به. ولكنه إذا رضي أن يقاتل كافراً غيره يقبل منه ولكن لا يجبر عليه، إلا أن ذلك لا يعني أنه غير مكلف به من الله.

هذا من حيث كونهم مطالبين بأحكام الإسلام، أما من حيث تطبيق الحاكم جميع أحكام الإسلام عليهم، فلأن الله تعالى يقول في حق أهل الكتاب: ((فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)) [المائدة: 48]، ويقول أيضاً في حقهم: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)) [المائدة: 49] وقال: ((إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)) [النساء: 105]، وهذا عام يشمل المسلمين وغير المسلمين، لأن كلمة الناس عامة: ((لتحكم بين الناس)). وأما قوله تعالى: ((سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)) [المائدة: 42] فإن المراد منها من جاء إلى الدولة الإسلامية من خارجها ليحتكم إلى المسلمين في خصومة مع كافر آخر أو كفار آخرين، فالمسلمون مخيرون بين أن يحكموا بينهم وبين أن يعرضوا عنهم. فإن الآية نزلت فيمن وادعهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من يهود المدينة، وعقد معهم معاهدات، وكانوا قبائل يعتبرون دولاً أخرى، فلم يكونوا خاضعين لسلطان الإسلام، بل كانوا دولاً أخرى. ولذلك كانت بينه وبينهم معاهدات. أما إن كانوا خاضعين لسلطان الإسلام، بأن كانوا ذميين، أو جاؤوا مستأمنين، فلا يجوز أن يحكم بينهم إلا بالإسلام، ومن امتنع منهم عن الرجوع إلى حكم الإسلام أجبره الحاكم على ذلك وأخذه به. إذ أنه لا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين أحدهما: أن يلتزموا إعطاء الجزية في كل حول، والثاني التزام أحكام الإسلام، وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم، لقول الله تعالى: ((حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ )) [التوبة: 29] أي خاضعون لأحكام الإسلام. وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يطبق عليهم أحكام الإسلام. روى البخاري من طريق ابن عمر: (أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل منهم وامرأة زنيا فأمر بهما فرجما) وروى البخاري من طريق أنس (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل يهودياً بجارية قتلها على أوضاح لها). وهؤلاء اليهود كانوا من رعايا الدولة الإسلامية. وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل نجران وهم نصارى (أن من بايع منكم بالربا فلا ذمة له) أخرجه بن أبي شيبة عن الشعبي مرسلاً، وهذا كله دليل على وجوب تطبيق جميع أحكام الإسلام على جميع الرعية، لا فرق بين المسلمين وغير المسلمين. وبناء على ذلك وضعت الفقرة (أ) من هذه المادة.

وأما الفقرة (ب) فإن الأمر العام في تطبيق أحكام الإسلام الوارد في قوله تعالى: ((فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ)) [المائدة: 48] قد خصص شرعاً بغير العقيدة التي يعتقدونها، وبغير الأحكام التي هي عندهم من العقيدة، وفي غير الأحكام التي أقرهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عليها. أما العقيدة والأحكام التي تعتبر عندهم منها والأحكام التي أقرهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عليها فقد استثناها الإسلام بنصوص صريحة. قال الله تعالى: ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) [البقرة: 256] وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها، وعليه الجزية) أخرجه أبو عبيد في الأموال من طريق عروة. فأي فعل كان من باب العقائد عندهم، ولو كان عندنا ليس من باب العقائد، فإننا لا نتعرض لهم فيه ونتركهم وما يعتقدون، وأي فعل أقرهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عليه كشربهم الخمر وكزواجهم فإننا لا نتعرض لهم فيه ضمن النظام العام. أي يجوز لهم شرب الخمر في حياتهم الخاصة، وليس في الحياة العامة التي يشاركهم فيها المسلمون كالأسواق العامة … ونحوها.

وأما الفقرة (ج) من هذه المادة فإن الإسلام قد وضع أحكاماً للمرتد، منها أن يقتل إذا لم يرجع، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري عن ابن عباس، وعن أنس قال: “فقدمت على عمر رضي الله عنه فقال: يا أنس، ما فعل الستة الرهط من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين؟ قال: يا أمير المؤمنين، قتلوا بالمعركة، فاسترجع عمر، قلت: وهل كان سبيلهم إلا القتل؟ قال: نعم، قال: كنت أعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا أودعتهم السجن” أخرجه البيهقي. أي حتى يتوب، فإن لم يتب يقتل، ولا يقتل بمجرد الارتداد. لما روي عن جابر: (أن امرأة هي أم مروان ارتدت، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعرض عليها الإسلام، فإن تابت، وإلا قتلت) أخرجه الدارقطني والبيهقي. وهذا الحديث يستعمله عامة الفقهاء واستدل به ابن القدامى في المغني والماوردي في الحاوي الكبير وفي الأحكام السلطانية، وأبو إسحق الشيرازي في المهذب، والرافعي في الشرح الكبير، والبغوي في التهذيب، وابن الجوزي في التحقيق، فيعتبر من الحسن، ويعمَل به، أي يستتاب المرتد قبل قتله.

هذا بالنسبة للمرتد نفسه، أما بالنسبة لأولاده الذين ولدوا على غير الإسلام، أي إذا ارتد المسلم ولم يقتل وظل على الدين الذي ارتد إليه، كأن صار نصرانياً أو يهودياً أو مشركاً وظل كذلك، وولد له أولاد وهو على هذه الحال، فولدوا نصارى أو يهوداً أو مشركين، فهل يعتبر أولاده مرتدين فيعاملون معاملة المرتدين أم يعتبرون كاعتبار أهل الدين الذي ولدوا عليه؟. والجواب على ذلك بأن أولاد المرتد الذين ولدوا قبل ارتداده فإنهم يعتبرون مسلمين قطعاً، فإذا تبعوا أباهم بارتداده عوملوا معاملة المرتدين. وأما إن ولدوا بعد ارتداده من زوجة كافرة أو زوجة مرتدة فإنهم يعتبرون كفاراً ولا يعتبرون مرتدين، فيعاملون معاملة أهل الدين الذي ولدوا عليه. فكل من ولد للمرتد بعد كفره من زوجة كافرة أو مرتدة فهو محكوم بكفره لأنه ولد من أبوين كافرين. فإن كان الأبوان صارا يهوداً أو نصارى أي من أهل الكتاب عومل معاملة أهل الكتاب، وإن صارا مشركين عومل معاملة المشركين. وذلك لما روي عن ابن مسعود: (أن صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد قتل أبيك “عقبة بن أبي معيط” قال من للصبية قال النار) رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وفي رواية الدارقطني: (النار لهم ولأبيه)، ولما ثبت في صحيح البخاري في باب أهل الدار من كتاب الجهاد: عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة قال: (مر بي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأبواء -أو بودان- وسئل عن أهل الدار، يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: هم منهم). فكل من ولد لأبوين كافرين يعتبر كافراً، وحكمه حكم الكفار. وعلى ذلك فإن الذين ارتدوا عن الإسلام وصاروا فرقاً غير إسلامية، كالدروز، والبهائية، والقاديانية، لا يعاملون معاملة المرتدين، لأنهم ليسوا هم الذين ارتدوا حتى يعاملوا معاملة المرتدين، بل أجدادهم هم الذين ارتدوا، وهؤلاء تولدوا من أبوين كافرين، فيحكم عليهم بالكفر، ويعاملون معاملة الكفار، وبما أن هؤلاء لم يرتدوا إلى دين من أديان أهل الكتاب، أي لم يرتدوا إلى النصرانية أو اليهودية، فإنهم يعاملون معاملة المشركين، فلا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، لأن غير المسلمين إما أن يعتبروا من أهل الكتاب أو من غير أهل الكتاب -أي من المشركين- ولا ثالث لهما، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن مجوس هجر من رواية الحسن بن محمد بن الحنفية: (فمن أسلم قبل منه، ومن لم يسلم ضربت عليه الجزية، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم) قال الحافظ في الدراية أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة، وهو مرسل جيد الإسناد. وأما ذرية الذين ارتدوا عن الإسلام وصاروا نصارى كما هي الحال في لبنان مثل عائلة شهاب، فإن آباءها مسلمون ارتدوا إلى النصرانية، وجاءت ذريتهم على دين النصارى، فهؤلاء وأمثالهم يعاملون معاملة أهل الكتاب.

وأما الفقرتان (د،هـ) فإن دليلهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أقر اليهود والنصارى على شرب الخمر، وأقرهم على زواجهم وطلاقهم، فيكون إقراره صلى الله عليه وآله وسلم تخصيصاً للدليل العام، إلا أن إقرار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالزواج والطلاق حين يكون الزوجان كافرين. أما إن كان الزوج مسلماً والزوجة نصرانية أو يهودية فإنه يطبق في حقهما أحكام الشرع. ولا يتأتى أن تكون الزوجة مسلمة والزوج كافراً؛ لأن ذلك باطل لقول الله تعالى: ((فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)) [الممتحنة: 10] فلا يحل تزوج المسلمة بغير المسلم مطلقاً، وإن تزوجت فزواجها باطل.

وأما الفقرة (و) فإنه بالنسبة لتنفيذ جميع أحكام الإسلام دليله ما سبق من أن الكافر مكلف بالأصول، ومكلف بالفروع، ومطالب بجميع أحكام الإسلام. وهذا عام يشمل الذمي وغير الذمي ممن يعيش تحت سلطان الإسلام. فجميع الكفار الذين يدخلون دار الإسلام، سواء أكانوا ذميين أم معاهدين أم مستأمنين، يجب أن تطبق عليهم أحكام الإسلام، ما عدا العقائد، وما عدا كل فعل يعتبر من العقائد، وكل فعل أقرهم صلى الله عليه وآله وسلم عليه. إلا أنه يستثنى من ذلك السفراء، ومن هم من قبيلهم، فإنه لا تطبق عليهم أحكام العقوبات، ويعطون ما يسمى بالحصانة الدبلوماسية، وذلك لما روى أحمد عن ابن مسعود قال: (جاء ابن النواحة وابن أثال، رسولا مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لهما: أتشهدان أني رسول الله؟ قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: آمنت بالله ورسله، لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما، قال عبد الله: قال: فمضت السنة أن الرسل لا تقتل). أخرجه أحمد وحسنه الهيثمي. فهذا الحديث يدل على تحريم قتل الرسل الذين يأتون من الكفار، ومثل القتل سائر العقوبات. إلا أن هذا لمن تنطبق عليه صفة الرسول، كالسفير والقائم بالأعمال ومن على شاكلتهما. أما من لا تنطبق عليه صفة الرسول كالقنصل وكالمعتمد التجاري ونحوهما فإنه لا حصانة لمثلهما، لأنه لا تنطبق عليه صفة الرسول. ويرجع في ذلك إلى العرف الدولي لأنه لفظ اصطلاحي يرجع في معرفة واقعه إلى العرف وهو من باب تحقيق المناط، أي معرفة هل هذا يعتبر من الرسل أم لا.

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة