الأحد، 1 جمادى الأولى 1446هـ | 03 نوفمبر 2024م | الساعة الآن: 21:11:46 (ت.م.م)
قضـاء المصـالح من رعـايـة الشـؤون
ثم إنه لما كان قضاء هذه المصالح مِن رعاية الشؤون، ورعاية الشؤون إنما هي للخليفة، لذلك كان للخليفة أن يتبنى أي أسلوب إدراي يراه، ويأمر بالعمل به. فإن للخليفة أن يَسنّ جميع القوانين والأنظمة الإدارية، ويلزم الناس العمل بها، لأنها أعمال فرعية، يجوز للخليفة أن يأمر بواحد منها، وأن يُلزِم الناس به دون غيره، وحينئذٍ وجبت طاعته، لأنه إلزام بتوابع حكم تبناه الخليفة، والإلزام به يقضي ترك ما سواه، أي منعه، وهو كتبنّي الأحكام سواء بسواء، ولا يخرج فيه عن الأحكام الشرعية. ولا يقال إن هذه الأساليب مباحة فلكل شخص أن يقوم بالأسلوب الذي يراه، فإذا ألزمَ الخليفة بمباح مِن المباحات، ومنع مباحاً آخر يكون قد حَرّم المباح، لا يُقال ذلك لأنه في تبنيه لأسلوب معين لا يكون قد أوجب مباحاً، وحرم مباحاً آخر، بل فعل ما جعله له الشرع من تبني الأحكام، وما يوصل إلى القيام بها، فصلاحيته في تبني الحكم هي صلاحيتة كذلك في تبني ما يوصل إلى القيام به، ولذلك كان له أن يتبناه، وعلى الرعية أن تَلتَزِم ما تبناه، ولا يصح أن تقوم بغيره إذا منعها منه. على أن هذا المباح هو المباح الذي يستعمل لرعاية الشؤون، فهو مباح للخليفة للرعاية بحسبه. لأن الرعاية له، وليس مباحاً لكل الناس، لأنهم لا يملكون صلاحيات الرعاية، ولهذا يكون وجوب التزام ما تبناه الخليفة فيه من باب وجوب الطاعة، لا من باب جعل المباح فرضاً.
التفصيلات الإدارية
هذا بالنسـبة للإدارة من حيـث هي، أما بالنسـبة لتفصـيلات الإدارة فإنها مأخوذة من واقع هذه الإدارة، إذ بالتدقيق في واقعها يتبين أن هناك أعمالاً يقوم بها الخليفة نفسه، أو معاونوه، سواء كانت من الحكم، أي تنفيذ الشرع، أو من الإدارة، أي قضاء المصالح الفرعية للناس، وهذه تحتاج إلى أسـاليب ووسـائل، ومن هنا كان لا بد من جهـاز خاص بالخـليفة، لإدارة الشـؤون التي يحـتاجـها للقـيام بمسـؤوليـات الخـلافة، ويتبين أيضاً أن هناك مصالح للناس يريدون قضاءها، وهي متعلقة بالرعية، وهـذه تحتاج إلى أسـاليب ووسـائل للقيام بها، ومن هنا كان لا بد من جهاز خاص لقضاء مصالح الناس.
وهذا الجهاز يتكوّن مِن مصالح ودوائر وإدارات. والمصلحة هي الإدارة العليا لأية مصلحة مِن مصالح الدولة، كالتعليم، والصحة، والزراعة، والصناعة وغيرها. وهذه المصلحة تتوَلّى إدارة المصلحة ذاتها، وما يتبعها مِن دوائر وإدارات. والدائرة هي التي تتوَلّى شؤون الدائرة نفسها، وما يتبعها من إدارات. والإدارة هي التي تتوَلّى شؤون الإدارة ذاتها، وما يتبعها من فروع وأقسام.
وهذه المصالح والدوائر والإدارات إنما تُنشَأ وتُقام لأجل النهوض بشؤون الدولة، ولأجل قضاء مصالح الناس.
ولضمان سير هذه المصالح والدوائر والإدارات لا بُدَّ مِن تعيين مسؤولين لها. فيُعيَّن لكل مصلحة مدير عام يتوَلّى إدارة شؤون المصلحة مباشرة، ويشرف على جميع الدوائر والإدارات التابعة لها. ويُعيّن لكل دائرة، ولكل إدارة مدير يكون مسؤولاً عنها مباشرة، وعمّا يتبعها مِن فروع وأقسام.
وهذا شرح لواقع إدارة المصالح، أو ما يسمى بـإدارات الدولة، بأنها جهاز عام لجميع الرعية، ومَن يعيشون في ظل سلطان الدولة، وقد أُطلِق عليها اسم (الديوان). وإدارة المصالح أو الديوان لم تكن موجودة في عهد الرسول r بترتيب خاص، بل كان يُعيّن لكل مصلحة كاتباً، فهو المدير، وهو الكاتب، وهو كل شيء.
وأول مَن وضع الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب t. وسبب وضعه للديوان أنه بعث بعثاً وكان عنده الهرمزان فقال لعمر: هذا بعث قد أعطيتَ أهله الأموال، فإن تَخلَّف منهم رجل وآجل بمكانه فمن أين يعلم صاحبك به؟ فأثـْـبـِتْ لهم ديواناً، فسأله عن الديوان ففسَّره له. وروى عابد بن يحيى عن الحارث بن نُفْيل أن عمر t استشار المسلمين في تدوين الدواوين، فقال عليّ بن أبي طالب t: تَقسِم كل سنة ما اجتمع إليك مِن المال ولا تُمسِك منه شيئاً. وقال عثمان بن عفان t أرى مالاً كثيراً يسع الناس فإن لم يُحصَوا حتى يُعرَف مَن أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر، فقال الوليد بن هشام بن المغيرة قد كنت بالشام فرأيت ملوكها قد دَوَّنوا ديواناً، وجَنَّدوا جنوداً، فَدوِّن ديواناً، وجَنّد جنوداً، فأخذ بقوله، ودعا عَقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم وكانوا من نُسّاب قريش وقال: «اكتبوا الناس على منازلهم».
ثم بعد ظهور الإسلام في العراق جرى ديوان الاستيفاء، وجباية الأموال على ما كان عليه من قبل. فكان ديوان الشام بالرومية، لأنه كان من ممالك الروم. وكان ديوان العراق بالفارسية، لأنه كان من ممالك الفرس. وفي زمن عبد الملك بن مروان نقل ديوان الشام إلى العربية سنة إحدى وثمانين هجرية. ثم تتابع إنشاء الدواوين حسب الحاجة، وما تقتضيه مصالح الرعية. فكانت الدواوين التي تختص بالجيش من إثبات وعطاء، وكانت الدواوين التي تختص بالأعمال من رسوم وحقوق، وكان الديوان الذي يختص بالعمال والولاة من تقليد وعزل، وكانت الدواوين التي تختص ببيت المال من دَخل وخَرج، وهكذا. فكان إنشاء الديوان متعلقاً بالحاجة إليه، وكان أسلوبه يختلف من عصر إلى عصر، لاختلاف الأساليب والوسائل.
وكان يُعيَّن للديوان رئيس، ويُعيَّن له موظفون، وكانت تُسنَد لهذا الرئيس صلاحية تعيين موظفيه في بعض الأحيان ويُعيَّنون له تعييناً في أحيان أخرى.
وعلى ذلك فإنه يُـتَّـبَـعُ في إنشـاء إدارة المـصـالح أو ما يسـمى بالديوان الحاجةُ، وما ينهض بأعباء هذه الحاجة من أساليب العمل، ووسائل القيام به، ويجوز أن تختلف في كل عصر، وأن تختلف في كل ولاية، وأن تختلف في كل بلد.
هذا من حيث إنشاء إدارة المصالح، أو إنشاء الديوان، أما من حيث مسؤولية هؤلاء الموظفين، فإنهم أجراء، وفي الوقت نفسه رعايا، فهم من حيث كونهم أجراء، أي من حيث قيامهم بعملهم، مسؤولون أمام رئيسهم في الدائرة، أي أمام مدير الدائرة. ومن حيث كونهم رعايا مسؤولون أمام الحكام من ولاة ومعاونين، ومسؤولون أمام الخليفة، ومقيدون بأحكام الشرع، وبالأنظمة الإدارية.