الأثنين، 4 ربيع الثاني 1446هـ | 07 أكتوبر 2024م | الساعة الآن: 21:11:46 (ت.م.م)
كيف أقيمت
كيف أقيمت
بعد أن اختار الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً ونبياً للناس كافة وأخذ الوحي في النزول عليه وبدأت آيات الله تخاطبه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) صار الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس لدين الله، فهو يدعوهم إلى الحق ليعبدوا الله مخلصين له الدين، فيدعوهم ليتقربوا إلى الله بالعمل الصالح بعد أن يقنعهم يقيناً بالقاعدة الفكرية بالإيمان بـ (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فيفردوا الله بالعبادة، ويأمرهم بطاعة الله ورسوله، ولينبذوا عبادة الأصنام التي يزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى. ثم يخاطبهم بما ينـزل عليه من آيات بينات من ربه: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) والمتتبع لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة يرى أنه بقي ثلاث سنين يعمل سراً ويدعو من يأنس فيه الصلاحية للإسلام وكان يطلب ممن يدعوه أن يبقي الأمر سراً فلا يفشي أمره. وكان يجمع من آمن به في دار الأرقم حيث يبلغهم آيات القرآن الكريم التي نزلت عليه ويثقفهم ويفقههم ويصوغهم حتى أقام جماعة تؤمن بعقيدة الإسلام وتنفذ أحكامه وتتحزب في حزب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتبين منه أن العمل جماعي وليس فردياً، وأن الأمر أخطر من إيمان أفرادٍ بل هو حملُ الدعوةِ إلى جميع البشر. فكان يلتقي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأصحابِه بعيداً عن أعينِ الناس ليكونَ تكتلُه الجديدُ في منأىً عن متناول المشركين.
كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يتوخى من تثقيف أصحابه أمرين:
أما الأول: فكان يريد أن يقوّيَ العقيدة في نفوسِهم فيعمقَ أفكارَها ويوطدَ مفاهيمَها ويغرسَ في أعماقهم جذورَها فلا يقوى الأعداءُ بعدئذٍ على انتزاعِها.
وأما الثاني: فليكوّنَ لديهم القدرةَ على الإعطاءِ وعلى إقناعِ الآخرين لأنهم سيكونون حملةَ الدعوةِ وقادةَ الأمةِ وهو أحوجُ ما يكونون إلى الوعيِ والفهمِ والقدرةِ على جلبِ الناس لدين الله. فيكونُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم قد اتخذ مكةَ نقطةَ ابتداءٍ له لم يخرجْ منها إلى غيرها للدعوة خلالَ الدورِ الأولِ من أدوار الدعوةِ والذي هو دورُ الثتقيف. وظل هذا شأنه هو وأصحابُه حتى بلغ من آمن به نيفاً وأربعين منهم عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب. وبعدما وطد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الإيمانَ في نفوسِهم ووحَّد ثقافَتَهم وجممعَهم في حزبٍ واحدٍ أنزل الله عليه بعد ثلاثِ سنين من البعثة يأمرُه أن يُظهرَ ما خفي من أمرِ تكتلِه وأن يصدعَ بما جاءه من عند ربه، بعد أن نزل عليه قوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ*وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ*فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) وتلى عليه الوحي: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ*إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ*الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
خرج الرسولُ صلى الله عليه وسلم في أصحابِه في صفين على رأس أحدِهما عمرُ وعلى رأس الآخر حمزة، وسار بهم من دارِ الأرقمِ بن أبي الأرقمِ إلى الكعبةِ، ليتحدى بهم قريشاً وليظهرَ لهم حزبَه الجديد وليبدأَ الدورُ الثاني من أدوارِ الدعوة، وهو دورُ التفاعلِ في المجتمعِ دورُ الصراعِ الفكري مع عقائد المشركين وعاداتِهم وتقاليدِهم، والكفاح السياسي مع زعمائِهم وقبائلهم.
ويتخذُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم أمَّ القرى ومن حولَها نقطةَ انطلاق لدعوتِهِ، لينطلق وأصحابُه بعد أن ركز العقيدةَ في نفوسهم ليقوموا بدورِهم الطليعيِّ في المجتمع، فيعرف الناس من هم حملةُ الدعوةِ حملةُ العقيدةِ الجديدةِ، وليسهلَ عليهم الاتصالُ بالناس وتبادلُ الرأي معهم، وليكونَ الصراعُ الفكريّ محتدِماً بين العقيدتين: الإسلام والكفر، فتتهاوى العقائدُ الزائفةُ والأفكارُ الخاطئةُ والمفاهيمُ المغلوطةُ وتصلُبُ وتترعرعُ المفاهيم الصادقة، فيدركَ كلُّ ذي بصيرةٍ مواطنَ الحقِّ ومعالمَ الصدق، فتتداعى الحججُ الواهيةُ وينبلجُ فجرُ الهدى وتتهاوى عقائدُ المشركين أمام العقيدةِ الإسلامية. وتبدأُ أولُ مواجهةٍ بين الرسولِ صلى الله عليه وسلم وبين عمِّه أبي لهب، يوم أن وقف الرسول صلى الله عليه وسلم على الصفا ودعا قريشاً بأسمائها: يا بني عبدِ المطلب، يا بني عبدِ مناف، يا بني زهرة، يا بني تيم، يا بني مخزوم، يا بني أسد إن الله أمرني أن أنذرَ عشيرتيَ الأقربين، وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعةً ولا من الآخرة نصيباً، إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فقال عمه أبو لهب: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟ فنزل قولُه تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ).
ويُـكْثِرُ المشركون من صد الرسول صلى الله عليه وسلم عن تبليغ دعوتِهِ، ولكنه يتحداهم ويسفهُ أحلامَهم، فيذهبون إلى عمه يشكونه إليه، فيقول قولتَه المشهورة: «والله يا عمُّ لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في يساري على أن أتركَ هذا الأمرَ حتى يظهرَه اللهُ أو أهلِكَ دونَه ما تركتُه»، فيفلسُ المشركون ويلجأون إلى الأساليبِ الرخيصة، وهي أساليبُ تعودَها المشركون المفلسون في كل عصر حينما يقفون مذهولين أمام حججِ الحقِّ الناصعة وبراهينِه الساطعة، رأى المشركون أن يحولوا بين الناس وبين الإسلام بواسطةِ الدعاية: فصاروا يتهمون الرسولَ صلى الله عليه وسلم أنه ساحرٌ مرة وكاهنٌ مرةً أخرى فتنزل الآياتُ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ*وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ*وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ*تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ). ثم قالوا: إنه ليختلي برجلٍ أعجمي فيخبرَه خبرَ الأولين، فقولُه هذا من أساطير الأولين، ويردُّ الله عليهم بالآياتِ البيناتِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).
ثم يزعمون أن القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم نفسِه، فينزلُ القرآنُ يتحداهم أن يأتوا بمثلِه، وهم من هم في الفصاحةِ والبلاغةِ فيقول تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
وعندما يفشلون في دعايتِهم هذه وتسقطُ حججُهم يلجأون إلى أسلوبِ المقاطعة، فتكتبُ القبائل وثيقةَ المقاطعةِ لمقاطعةِ المسلمين ومن يحمي النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلقونها على الكعبة، يمنعون الناسَ من أن يبيعوهم أو يشتروا منهم أو يزوجوهم أو يتزوجوا منهم تماماً كما لو عقد مؤتمرٌ دوليّ لمقاطعةِ دولةٍ من الدول أو هيئةٍ من الهيئاتِ السياسيةِ أو حزبٍ من الأحزاب.
وظل المسلمون محاصرين هم وبنو هاشم في شعبِ أبي طالبٍ ثلاثَ سنين حتى أكلوا أوراقَ الشجرِ جوعاً. ويشاءُ اللهُ أن تنتهيَ المقاطعة، وقد خرج منها المسلمون أكثرَ إيماناً بعقيدتِهم وتمسكاً برسولهم، وتلجأ قريشُ إلى أسلوب آخر، وهو أسلوب التعذيب، وهو آخرُ ما عندهم من الأساليب، وتنطلقُ كلُّ قبيلةٍ لتوقعَ العذابَ بمن آمن من أفرادها. ويطولُ هذا الدور، الذي هو دور التفاعلِ ويظلُّ الصراعُ قائماً بين المسلمين، على ضعفهم، والمشركين على طغيانِهم وتجبُّرهم عشرَ سنوات يذوقُ فيها المسلمون ألوانَ العذاب ويموتُ ياسرٌ وزوجتُه تحت التعذيبِ ويُمْتحنُ عمارٌ في إيمانِه ويلاقي بلالٌ وغيرُه من الأذى وألوانِ العذابِ ما لا يُحتمل.
ظل الرسولُ صلى الله عليه وسلم على صلةٍ بأصحابِه يعدُهم بالنصر وبالفرجِ من عند اللهِ تعالى ويحثّهم على الصبر، فكانوا رضوانُ الله عليهم نمطاً غريباً في صلابتِهم وفهمِهم وتمسكِهم بعقيدتهم. ونمّى الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم النفسيةَ وترعرعت فيهم العقلية، حتى غدوا شخصياتٍ إسلاميةً فذّة، استوعبت عقولُهم ما درسوه وأبت ميولُهم إلا محبةَ اللهِ ورسولِه، فصارت أهواؤهم تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلمحيث قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواه تبعاً لما جئت به» وأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لمن أراد منهم أن يهاجرَ إلى الحبشةِ فإنّ فيها ملكاً لا يظلمُ عنده أحد، فهجروا ديارَهم لينجوا بعقيدتهم وانسلخوا من أموالِهم ليظلوا على الولاءِ لربِّهم وتركوا أهلَهم لمقدورِ الله، وهاموا على وجوهِهم إلى الحبشة، يقطعون الصحراءَ ويركبون البحرَ هؤلاء المؤمنون كانوا لا يخشون على الحياة لأن اللهَ هو واهبُ الحياة، فلا تطلبُ عند غيره: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).
كانوا يؤمنون أن ما أصابهم لم يكن ليخطئَهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبَهم، آمنوا بقدرِ الله فاستهانوا بوعيدِ المشركين لوعدِه تعالى، فما تقاعسوا ولا تراجعوا ولا استكانوا. فقد كان اعتناق الإسلام يقتضي من معتنقيه أن يتركوا عقيدةَ الشرك، عقيدةَ الآباءِ والأجداد، وكان السلطانُ يحمي هذه العقيدة، ويعتبر الخروجَ عليها قضيةً مصيريةً يجبُ إعادةَ الخارجِ عنها إليها وإلا فليقتل. فكان المسلمُ يضع في حسابه أن ثمنَ اعتناقِ الإسلامِ الموتُ فهو من أول يوم يعد نفسه لتحملِ ما سيلقاه في سبيلِ العقيدةِ الجديدةِ. وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يشرفُ على تثقيفِهم وتثبيتهم، ويبشرهم أن الله تعالى ناصرُهم ومظهرُ دينِه، فتطفح نفوسهم بالأمل.
كان القرآنُ ينزلُ على الرسولِ صلى الله عليه وسلم منجماً حسبَ الحوادث، فإذا نزلت آياتٌ في حادثةٍ استوعبها المسلمون وحفظوها وتلقفوها بشوقٍ عظيمٍ فيعملون بكل ما ورد فيها من أحكام. وكان كلما حزبهم أمر نزلت فيه الآياتُ تجلوه لهم، فيتجددُ إيمانُهم، فهم دوماً في صراعٍ مع خصومِهم، وإلى جانبِ هذا كان عملُ الصحابةِ الدؤوبُ بما ينزلُ عليهم من القرآنِ الكريمِ يتلونه آناءَ الليل وأطرافَ النهار وينفذونه في واقعِ الحياة، فيربطونه بالناحيةِ العملية فتكسبَهم قوةً في عقيدتِهم وصلابةً في كفاحهم فلا يثنيهم عنها وعيدُ حاقدٍ ولا كيدُ حاسد: (كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ*وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).
وفي هذا الدورِ أيضاً يستمر الصراعُ الفكري والكفاحُ السياسي بين المسلمين والمشركين، وصار المسلمون يتحدون زعماءَ قريش، فهذا أميةُ ابن خلف يحملُ عظماً بالياً فيأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: أتزعمُ يا محمد أن ربَّك يحيي هذا بعد أن رم؟. فيقول له رسول صلى الله عليه وسلم: «نعم، وإنه سيحييك بعد أن ترمّ ثم يرمي بك في النار»، ولم يسمحِ الله لنبيه أن يهادنَ زعماءَ قريش ولا أن يتهاونَ معهم. فها هو يحذرُه أن يطيعَ الوليدَ بن المغيرة فيقول: (فَلَا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ*وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) بل ويشنعُ على الوليد فيقول: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ*هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ*مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ)، ويشتدُّ الأذى بالمؤمنين، ويستعرُ غيظُ المشركين عليهم فيموتُ من يموت، ويتحجرُ المجتمعُ المكي، وتموتُ زوجةُ النبي صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها ويموتُ عمُّه أبو طالب، وتنالُ قريشٌ من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تنالُه من قبل، ويُسْرى برسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتِ المقدس ويُعْرَجُ به إلى السماء، وتشتدُّ دعايةُ قريشٍ ضدَّه. ويبدأُ في طلبِ النصرةِ من القبائل، فيأتيهم في منازلِهم ويدعوهم لدينِ الله ليؤمنوا باللهِ ورسولِه ويحموه ويمنعوه ليبلِّغَ عن الله، ويتعرضُ لوفودِهم في مواسمِ الحج وفي أسواقِهم في عكاظٍ وغيرِها، وابتدأ بالطائف فخرج يلتمسُ النصرةَ من ثقيف والمنعةَ بهم من قومه ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل.
عمد الرسولُ صلى الله عليه وسلم إلى نفر من ثقيف هم يومئذٍ سادةُ ثقيفٍ وأشرافُها، فجلس إليهم رسولُ اللهصلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيامِ معه على من خالفه من قومِه. فردوا عليه شر رد، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندِهم، فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى مكة. واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضُ نفسَه في المواسمِ على قبائلِ العربِ يدعوهم إلى الله ويخبرُهم أنه نبيٌّ مرسلٌ ويسألهم أن يصدِّقوه ويمنعوه حتى يبينَ عن الله ما بعثه به، فطلب النصرةَ من بضعَ عشرةَ قبيلةٍ كانت تتفاوتُ ردودها، فطالبت إحدى القبائل بأن يكونَ لها الأمرُ من بعدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فرفض عليه السلام قائلاً: «الأمر لله يضعه حيث يشاء» وإحدى القبائل عرضت عليه أن تحميَه من العرب ولكن لا قدرة لها على الوقوف في وجه فارس والروم، فأجاب عليه السلام: «إن الأمرَ ـ أي الإسلام والحكم به ـ لا يقومُ به إلا من يحوطُه من كل جانب».
التقى الرسول صلى الله عليه وسلم بوفدِ المدينةِ من ستةِ نفر، ثم التقى بهم في العامِ التالي وكانوا اثنيْ عشرَ رجلاً فآمنوا به وصدقوه وبايعوه على الإسلام فبعث معهم مصعبَ بن عميرٍ يعلمُهم الإسلام وينشرُ الدعوةَ في المدينة حتى انتشر الإسلامُ فيهم فلم يبقَ دارٌ من دورِ الأنصارِ إلا وفيها ذكرُ الإسلام، ثم إن مصعبَ بن عمير رجع إلى مكةَ مع من خرج من المسلمين من الأنصار إلى الموسمِ مع حجاجِ قومِهم من أهل الشركِ حتى قدموا مكة، وأخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فسرَّ بذلك. قال كعبُ بن مالك: خرجنا إلى الحج فواعدنا رسول اللهصلى الله عليه وسلم العقبة، ووافيناه أوسطَ أيامِ التشريقِ حين أراد الله بالأنصارِ ما أراد من كرامةٍ والنصرِ لنبيِّه وإعزازِ الإسلامِ وأهلِه وإذلالِ الشركِ وأهلِه. حيث بايع الأنصارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمعِ والطاعةِ في منشطِنا ومكرهِنا وعسرِنا ويسرِنا وأثرةٍ علينا وأن لا ننازعَ الأمر أهلَه وأن نقولَ الحقَّ لا نخشى في الله لومةَ لائم، قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان.
وبايع الأنصارُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءَهم ونساءهم فكانت بيعةً على القتال. ثم كانت الهجرةُ فوصف الله المسلمين بقوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًامِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ*وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ).
خرج الرسولُ صلى الله عليه وسلم مهاجراً ومعه أبو بكر وتخرجُ قريشٌ في طلبهما وهي على العزمِ في قتلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبوءُ بالفشل، ويواصل الرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم مسيرتَه ويوافي دارَ هجرتِه ويلاقيه المسلمون بالأناشيدِ والأفراحِ ويؤاخي بين المهاجرين والأنصارِ زيادةً في المحبة وقوةً في الإيمان فإذا هم حزبُ الله الذين قال الله فيهم: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ). ثم قامت دولةُ الإسلام. ويبني الرسول صلى الله عليه وسلم مسجدَه فيكونُ مقراً للدولةِ الناشئة، تنطلقُ منه البعوثُ إلى الجهادِ وتتحركُ رسلُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وحملةُ الإسلامِ لتبليغِ الملوكِ والحكامِ وفيه تعقدُ الاجتماعاتُ وتؤدّى الصلواتُ وإليه تفدُ الوفودُ وفيه يوضعُ الأسرى.
وينتهي دورُ التفاعل ويستلمُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم الحكم وتعيِّنُ المدينة نقطة ارتكازٍ لهم ويتوالى نزولُ القرآنِ وخاصةً آياتُ الأحكامِ لتبينُ كيفيةَ تنظيمِ العلاقاتِ بين المسلمين وغيرِهم وهي التي تسمّى اليومَ العلاقاتِ الدولية، ويتحدّدُ شكلُ الدولةِ وشكلُ المجتمع، ونبين هنا المسؤولياتِ العامةَ التي يُعتمدُ فيها على الأمةِ بكاملِها وهي مسؤوليةُ الأمةِ الإسلاميةِ عن تنفيذِ أحكامِ الإسلامِ ومسؤوليتُها عن حملِ الدعوةِ الإسلاميةِ إلى كافةِ الشعوبِ والأممِ، ومسؤوليتُها عن الجهادِ في سبيل الله ومسؤوليتُها عن تنصيبِ حاكمٍ يحكمُها بكتابِ الله وسنةِ رسولِه، ومسؤوليتُها عن الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ. كلُّ هذه المسؤولياتِ ظهرتْ جليةً بعدَ نزولِ الآيات وقام بها المسلمون دون ما تخلفٍ أو تخاذلٍ وانطلقوا في الدنيا يحققون موعودَ الله لهم: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ منقبلهم).
وأقام المسلمونَ العدلَ فاقتعدوا بين الأمم مكاناً عليّـاً فكانوا خيرَ أمّـة أخرجت للناسِ تأمرُ بالمعروفِ وتنهى عن المنكرِ وتؤمن بالله فأعزها اللهُ حتى غدت الدولةَ الأولى في العالم، وظلت تقتعد مكانَ الصدارة ثلاثةَ عشرَ قرناً في غايةِ المجدِ والعزِّ لا ينازعُها في ذلك أحدٌ ما دامت محافظةً على تحقيقِ هذه المسؤوليات الجسام وتتخذُ اتجاهَها إجراءَ الحياةِ أو الموت.
فلما تخلت الأمّـةُ الإسلاميةُ عن هذه المسؤولياتِ وتنازلت عن المستوى اللائقِ بها وتناست قضاياها المصيرية أخذت تنحدرُ شيئاً فشيئاً حتى غدت في وضعٍ لا تحسدُ عليه فتجزأت بلادُها وزالت وحدتُها وهدمت دولتُها ونهبت خيراتُها وتسلط عليها أعداؤُها واقتتل أبناؤها فذهبت ريحُهم وخبت نيرانُهم فلا تسمعُ لهم همساً.
هذا نهجُ الرسول صلى الله عليه وسلم في الوصول إلى إقامةِ الدولةِ وهذه هي طريقتُه وسنتُه: نقطةُ الابتداءِ في مكة ودورُ التثقيف ثم نقطةُ الانطلاقِ فيها وفي ما جاورها ودورُ التفاعلِ الذي استمر طويلاً، ذاق المسلمون فيه الويلاتِ وهم في صراع فكريٍّ مع عقائدِ وعاداتِ المشركين وفي كفاحٍ سياسيٍّ مع زعمائهم. ثم نقطةُ الارتكازِ في المدينةِ ودورُ تولّي الحكمِ وما تبعه من الفتوحاتِ لنشر الإسلام.
والذين يرون فسادَ المجتمعات، وأن من واجبِهم العملَ على تغييرِها فليعملوا على نهجِه وليقتدوا بسنته، وليعلموا أن السيرَ في هذه الأدوار هو حكمٌ شرعي، وأن الأعمال في كل دور هي كذلك كالتثقيفِ في الدورِ الأول وكالعملِ السياسيّ في الدورِ الثاني الذي يتمثلُ في الصراعِ الفكري والكفاحِ السياسي كلها أحكامٌ شرعيةٌ أدلتُها أعمالُ الرسول صلى الله عليه وسلم وهي من أحكامِ الطريقة لأن كلَّ دورٍ منها هو من الطريقةِ التي لا تتغير وليس من الوسائلِ والأساليبِ القابلةِ للتغييرِ والتبديل: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي).