الأحد، 3 ربيع الثاني 1446هـ | 06 أكتوبر 2024م | الساعة الآن: 21:11:46
(ت.م.م)
النظام التعليمي
النظام التعليمي
1- المـقدمـة:
إنَّ ثقافة الأمَّة (أية أمة) هي العمود الفقري لوجودها وبقائها، فعلى هذه الثقافة تُبنى حضارة الأمة وتتحدد أهدافها وغايتها ويتميز نمط عيشها، وبهذه الثقافة ينصهر أفرادها في بوتقة واحدة، فتتميز الأمة عن سائر الأمم. فهي: عقيدتها وما ينبثق عن هذه العقيدة من أحكام ومعالجات وأنظمة، وما يبنى عليها من معارف وعلوم، وما دار من أحداث مرتبطة بهذه العقيدة كسيرة الأمة وتاريخها. فإذا اندثرت هذه الثقافة انتهت هذه الأمة، كأمَّة متميزة، فتبدلت غايتها ونمط عيشها وتحول ولاؤها، وتخبطت في سيرها وراء ثقافات الأمم الأخرى.
والثقافة الإسلامية هي المعارف التي كانت العقيدة الإسلامية سببا في بحثها، سواء أكانت هذه المعارف تتضمن العقيدة الإسلامية كعلم التوحيد، أم كانت مبنية على العقيدة الإسلامية مثل الفقه والتفسير والحديث، أم كان يقتضيها فهم ما ينبثق عن العقيدة الإسلامية من الأحكام مثل المعارف التي يوجبها الاجتهاد في الإسلام كعلوم اللغة العربية ومصطلح الحديث وعلم الأصول، فهذه كلّها ثقافة إسلامية لأن العقيدة هي السبب في بحثها. وتاريخ الأمة الإسلامية جزء من ثقافتها لما فيه من إخبار عن حضارتها وعن رجالها وقادتها وعلمائها. وتاريخ العرب قبل الإسلام ليس من الثقافة الإسلامية، بينما يمكن اعتبار شعر العرب قبل الإسلام من هذه الثقافة لما فيه من شواهد تعين على فهم ألفاظ اللغة العربية وتراكيبها، وبالتالي على الاجتهاد وعلى تفسير القرآن وفهم الحديث.
وثقافة الأمَّة هي الصانع لشخصيات أفرادها، فهي التي تصوغ عقلية الفرد وطريقة حكمه على الأشياء والأقوال والأفعال كما تصوغ ميوله وبالتالي تؤثر في عقليته ونفسيته وسلوكه. ولذا فإن الحفاظ على ثقافة الأمة وإشاعتها في المجتمع هي من المسؤوليات الرئيسة للدولة؛ فالاتحاد السوفييتي سابقاً أرضع الثقافة الشيوعية أبناءه وحاول منع تسرب أي فكر رأسمالي أو إسلامي إلى ثقافته. والغرب برمته ربَّى أبناءه على ثقافته الرأسمالية القائمة على فصل الدين عن الحياة، وجعل عيشه قائما ومبنياً عليها، وصنع الحروب ولا يزال يصنعها لمنع تسرب الثقافة الإسلامية إلى عقيدته وثقافته. والدولة الإسلامية حرصت على غرس الثقافة الإسلامية في أبنائها ومنعت كلَّ من يدعو إلى فكر غير مبنيٍ على العقيدة الإسلامية في داخل الدولة، وحملت ثقافتها إلى الدول والأمم بالدعوة والجهاد، وستظل كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن أهم الضمانات للحفاظ على ثقافة الأمة هو أن تكون ثقافتها محفوظة في صدور أبنائها وفي سطور كتبها، وأن تكون للأمة دولة تحكمها وترعى شؤونها. وفق ما ينبثق عن عقيدة هذه الثقافة من أحكام وقوانين.
والتعليم هو الطريق لحفظ ثقافة الأمة في صدور أبنائها وفي سطور كتبها، سواء أكان تعليما منهجيا منظما، أم غير منهجي. والتعليم المنهجي هو التعليم المنضبط بأنظمة وقوانين تتبناها الدولة، وتكون الدولة مسؤولة عن تنفيذه. مثل تحديد سنّ القبول، والمواد الدراسية وطريقة التدريس. بينما في التعليم غير المنهجي، تترك للمسلمين ممارسة التعليم في البيوت والمساجد والنوادي، ووسائل الإعلام ودور النشر وما شاكلها، دون الخضوع لأنظمة وقوانين التعليم المنهجي، مع أن الدولة في كلا النوعين مسؤولة عن الأفكار والمعارف لتكون إما منبثقة عن العقيدة الإسلامية أو مبنية عليها. وفي هذا الكتيب سنتناول أسس التعليم المنهجي في دولة الخلافة.
2- سياسة التعليم في دولة الخلافة وتنظيمه:
يتكوَّن نظام التعليم في دولة الخلافة من مجموعة الأحكام الشرعية والقوانين الإدارية المتعلقة بالتعليم المنهجي. فالأحكام الشرعية المتعلقة بالتعليم تنبثق عن العقيدة ولها أدلتها الشرعية، مثل مواد التدريس والفصل بين الطلبة الذكور والإناث. أمَّا القوانين الإدارية في التعليم فهي الوسائل والأساليب المباحة التي يراها وليُّ الأمر ناجعة في تنفيذ النظام وتحقيق الغاية منه، وهي أمور دنيوية قابلة للتطوير والتغيير بما يتناسب وتنفيذ الأحكام الشرعية المتعلقة بالتعليم وبالحاجات الأساسية للأمة، كما يمكن أخذها مما توصلت له الأمم الأخرى من تجارب وخبرات وأبحاث مُباحة.
وهذا النظام، بأحكامه الشرعية وقوانينه الإدارية، بحاجة إلى جهاز إداري فيه الكفاية للقيام بتحقيق الغاية الأساس من التعليم في دولة الخلافة، وهي بناء الشخصية الإسلامية، بحيث يتولى هذا الجهاز الإشراف والتنظيم والمراقبة في جميع جوانب التعليم، من حيث وضع المناهج، واختيار المعلمين المؤهلين، ومتابعة تقدم تحصيل الطلبة وترفيعهم. وتجهيز المدارس والمعاهد والجامعات بما يلزمها من مختبرات ووسائل تعليمية ملائمة.
ونورد فيما يلي معظم مواد “سياسة التعليم” من “مقدمة الدستور” وهو مشروع دستور للدولة الإسلامية:
المادة 165 – يجب أن يكون الأساس الذي يقوم عليه منهج التعليم هو العقيدة الإسلامية، فتوضع مواد الدراسة وطرق التدريس جميعها على الوجه الذي لا يحدث أي خروج في التعليم عن هذا الأساس.
المادة 166 – سياسة التعليم هي تكوين العقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية، فتوضع جميع مواد الدراسة التي يراد تدريسها على أساس هذه السياسة.
المادة 167 – الغاية من التعليم هي إيجاد الشخصية الإسلامية وتزويد الناس بالعلوم والمعارف المتعلقة بشؤون الحياة. فتجعل طرق التعليم على الوجه الذي يحقق هذه الغاية وتمنع كل طريقة تؤدي لغير هذه الغاية.
المادة 169 – يجب أن يُفرَّق في التعليم بين العلوم التجريبية وما هو ملحق بها كالرياضيات، وبين المعارف الثقافية. فتدرس العلوم التجريبية وما يلحق بها حسب الحاجة، ولا تقيد في أية مرحلة من مراحل التعليم. أما المعارف الثقافية فإنها تؤخذ في المراحل الأولى قبل العالية وفق سياسة معينة لا تتناقض مع أفكار الإسلام وأحكامه. وأما المرحلة العالية فتؤخذ كالعلم على شرط أن لا تؤدي إلى أي خروج عن سياسة التعليم وغايته.
المادة 170 – يجب تعليم الثقافة الإسلامية في جميع مراحل التعليم، وأن يُخصَّص في المرحلة العالية فروع لمختلف المعارف الإسلامية كما يخصص فيها للطب والهندسة والطبيعيات وما شاكلها.
المادة 171 – الفنون والصناعات قد تلحق بالعلم من ناحية كالفنون التجارية والملاحة والزراعة وتؤخذ دون قيد أو شرط، وقد تلحق بالثقافة عندما تتأثر بوجهة نظر خاصَّة كالتصوير والنحت فلا تؤخذ إذا ناقضت وجهة نظر الإسلام.
المادة 172 – يكون منهاج التعليم واحداً، ولا يُسمح بمنهاج غير منهـاج الدولة، ولا تُمـنع المـدارس الأهـلية ما دامت مقيدة بمنهاج الدولة، قائمة على أساس خطة التعليم، متحققة فيها سياسة التعليم وغايته، على ألاّ يكون التعليم فيها مختلطاً بين الذكور والإناث لا في التلاميذ ولا في المعلمين، وعلى أن لا تختص بطائفة أو دين أو مذهب أو عنصر أو لون.
المادة 173 – تعليم ما يلزم للإنسان في معترك الحياة فرض على الدولة أن توفره لكلِّ فرد ذكراً كان أو أنثى، في المرحلتين الابتدائية والثانوية. فعليها أن توفر ذلك للجميع مجانا، ويفسح مجال التعليم العالي مجانا للجميع بأقصى ما يتيسر من إمكانيات.
المادة 174 – تهيئ الدولة المكتبات والمختبرات وسائر وسائل المعرفة في غير المدارس والجامعات لتمكين الذين يرغبون مواصلة الأبحاث في شتى المعارف من فقه وأصول فقه وحديث وتفسير، ومن فكر وطب وهندسة وكيمياء، ومن اختراعات واكتشافات وغير ذلك، حتى يوجد في الأمة حشد من المجتهدين والمبدعين والمخترعين.
3- الأهداف العامَّة للتعليم في دولة الخـلافة:
هناك هدفان رئيسان للتعليم يجب مراعاتهما عند وضع المناهج والمواد الدراسية:
-
بناءُ الشخصية الإسلامية، عقلية ونفسية، لأبناء الأمة، وذلك عن طريق غرس الثقافة الإسلامية، عقيدة وأفكارا وسلوكا، في عقول الطلبة ونفوسهم. لذا يحرص واضعو المناهج ومنفذوها في دولة الخلافة على تحقيق هذه الغاية.
-
إعدادُ أبناء المسلمين ليكون منهم العلماء المختصون في كل مجالات الحياة سواء في العلوم الإسلامية (من اجتهاد وفقه وقضاء وغيرها)، أو في العلوم التجريبية (من هندسة وكيمياء وفيزياء وطب وغيرها)، علماء أكفاء يحملون دولة الإسلام والأمة الإسلامية على أكتافهم لتقتعد المركز الأول بين الأمم والدول في العالم، فتكون دولة قائدةً ومؤثرة بمبدئها، لا تابعة أو عميلة في فكرها واقتصادها.
4- طريقة التدريس:
الطريقة الصحيحة للتدريس هي الخطاب الفكري من المُعلِّم، والتلقي الفكري من المُتعلِّم، فالفكر أو العقل هو أداة التعليم والتعلم، وهذا العقل خاصية أودعها الله تعالى في الإنسان كرّمه بها وفضّله على كثير من مخلوقاته، وجعله مناط التكليف.
وللعقل مكونات أربع: الدماغ (الصالح للتفكير)، والإحساس، والواقع، والمعلومات السابقة عن الواقع. والعقل، أو الفكر، أو الإدراك، بمعنى واحد وهو: “نقل الحسّ بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ووجود معلومات سابقة يُفسر بواسطتها الواقع“، ثم إصدار الحكم على الواقع.
فإذا أُريد نقل هذا الفكر للآخرين، كما يحصل في العملية التعليمية، فإنّ المعلم ينقل هذا الفكر للطلبة بوسيلة أو أكثر من وسائل التعبير وعلى رأسها اللغة. فإن اقترن هذا الفكر عند الطلبة بواقع محسوس أو سبق أن أحسوا به، أو أحسوا بمثله، فإنّه يكون قد انتقل إليهم فكراً، كأنّهم هم الذين توصلوا إليه. وان لم يقترن عندهم بواقع محسوس أو يمكن أن يُحس، بأن فهموا معنى الجمل وشُرحت لهم دون أن يتصوروا أيَّ واقع لها، فإنّه لا يكون قد انتقل إليهم فكراً، وإنما نُقلت إليهم معلومات، فيصبحون بهذه المعلومات متعلمين لا مفكرين. ومن هنا كان لا بد للمعلم عندما ينقل إلى الطلبة أفكاراً أن يُقرِّب ما فيها من معانٍ لأذهان الطلبة بمحاولة قرنها بواقع محسوس لديهم، أو بواقع قريب مما يحسّونه حتى يأخـذوها منه أفكاراً لا مجرد معلومات. ولهذا فلا بُدَّ للمعلم أن يحرص على أن يجعل الطالب يحسّ الواقع، فإن تعذّر حضور الواقع نفسه، على المعلم أن يوجد صورة قريبة من ذلك الواقع في ذهن الطالب عند إعطاء الفكر، وذلك حتى تقترن المعلومات بالواقع المحسوس أو المتصور عند الطالب فتوجـِد لديه فكرا.
والفكر الذي ينقله المعلم إلى الطلبة يُنظر فيه:
– فإن كان له واقع محسوس سبق أن أحسّه الطلبة، أو أحسّوه حين نُقل إليهم، فقد أدركوه وتلقّوه تلقّياً فكريا.
– وإن كان لم يسبق لهم أن أحسّوه، ولم يحسّوه حين نقل إليهم، بل تصوروه في أذهانهم كما نقل إليهم وصدّقوه، وصار له واقع في أذهانهم كأنهم أحسّوه، وسلّموا به كتسليمهم بالواقع المحسوس، فهم أيضا قد أدركوه وتلقّوه تلقّياً فكريا.
وفي الحالتين يصبح الفكر الذي نقله المعلم إليهم فكراً عندهم أنفسهم. وأما إن لم يوجد للفكر واقع محسوس، أو واقع يمكن أن يُحسّ عند الطلبة، ظل هذا الفكر مجرد معلومات عند من يُنقل إليه.
والواقع المحسوس هو الواقع الذي يمكن أن يحسَّه الإنسان بإحدى حواسه الخمس، سواء أكان هذا الواقع مادياً أم معنوياً. أمَّا الواقع المادي كإحساسه الشجرة بالبصر، وصوت العصفور بالسمع، ونعومة القماش باللمس، ورائحة الزهور بالشمّ، وطعم العسل بالذوق. وأما الواقع المعنوي فهو كالشجاعة والأمانة والجبن والخيانة، فإنَّه يحسها إحساساً فكرياً بناءً على مظاهرها المادية، فيُدرك أنَّ مقاتلة المسلم وثباته في مواجهة العدو رغم تفوق العدو عددا وعدَّة هو شجاعةٌ وأنَّ هروبه من المعركة جبن. والواقع المحسوس أو الذي يمكن أن يُحسّ – مادياً كان أم معنوياً – عنصر أساسي في عملية التفكير، لا يكون الفكر فكراً إلاّ به.
والمُغيَّبات التي ليس بمقدور الإنسان أن يحسّها بإحدى حواسه في الدنيا، كالجنَّة والنار والعرش وغيرها، فهذه لا تكون محلاً للتفكير عن طريق الحواس، إنَّما تكون محلاً للتفكير عن طريق الأخبار المقطوع بصدقها، كالقرآن الكريم والحديث المتواتر. أمَّا المُغيَّبات التي تخيّل بعض الناس وجودها، كالغول، والثور الذي يحمل الأرض على قرنه، فإنَّ الاشتغال بها لا يكون تفكيرا، لأنَّها لم تحس، ولم يُنقل الإحساس بها نقلا قطعيا، فهي خيال وخرافة، لا واقع لها، فيجب أن يُجنَّب الطلبة الاشتغال بالتفكير فيها.
وفي عملية الخطاب الفكري والتلقي الفكري، عن طريق السماع أو القراءة، لا بدَّ للمخاطِب وهو المعلِّم، أو واضع المنهاج، أن يستعمل عناصر التفكير الأربعة، فيراعي عند مخاطبته المتعلِّم “الطالب” مشافهةً أو كتابة، أن يصوِّر له الواقع، محلّ التفكير، إن لم يحسّه الطالب سابقا، تصويراً دقيقاً، بحيث يشعر المتلقي كأنَّه يحس ذلك الواقع، وذلك بحشد كل المعلومات عن ذلك الواقع، لتقريب صورته إلى ذهنه.
والخطاب الفكري أو التلقي الفكري في التعليم أو التعلم، أداته الأساسية هي اللغة، بما تحويه من ألفاظ وجمل وما تدلُّ عليه هذه الألفاظ والجمل من معانٍ، وما تدلُّ عليه هذه المعاني من أفكار. فإن أدرك المعلم والطالب هذه الألفاظ والجمل والمعاني، من حيث دلالتها على الأفكار، كانت هذه الأداة فعَّالة في عملية التعليم والتعلُّم. ولذا، فلا بد لكلّ من المعلِّم وواضع المنهاج أن يراعي الحصيلة اللغوية للطلبة المتعلمين، فيستعمل الألفاظ والجمل والتراكيب التي يفهمونها، لكي يسهل التخاطب الفكري بين الطرفين. ونعني بالتخاطب الفكري، هو اشتمال الخطاب بين الطرفين على عناصر التفكير الأربعة.
بهذه الطريقة تتحول النصوص مكتوبةً كانت أو ملفوظة إلى أفكار في دماغ المتعلم (كما هي عند المعلم) يستطيع التعبير عنها بما لديه من حصيلة لغوية، ومن ثَمَّ التعامل معها بما لديه من مقاييس، كالحلال والحرام، والصواب والخطأ.
وهذه الطريقة صالحة لإعطاء كلِّ فكر أو تلقّيه، سواءً أكان للفكر علاقة مباشرة في وجهة النظر الخاصة عن الحياة، كأفكار المبدأ، أم لم يكن له علاقة مباشرة بوجهة النظر الخاصة، كعلوم الرياضيات. فإن كانت الأفكار من النوع الأوّل، أي لها علاقة مباشرة في وجهة النظر الخاصّة عن الحياة، أي من الأفكار التي تُنظِّم علاقة الإنسان بربه أو بنفسه أو بغيره، فلا بد من ربط هذا الفكر بالعقيدة الإسلامية، وحينها لا بدَّ من مخاطبة شعور المتعلم إلى جانب مخاطبة فكره، وبيان علاقة هذا الفكر بحياة المتعلم في الدنيا والآخرة، حتى يقتنع بصحة هذا الفكر ويصبح لديه مفهوما يضبط سلوكه، فتتحرك فيه مشاعر الحبِّ والإقدام تُجاه الأفكار الصحيحة المنبثقة عن وجهة نظره الخاصة، التي عينتها العقيدة الإسلامية، فيندفع لتحقيقها بقناعة وحماسة، وحتى تتحرك فيه مشاعر الكره والإحجام تُجاه الأفكار المغلوطة المناقضة والمخالفة لوجهة نظره في الحياة، فيندفع لمحاربتها ورفضها. فتعليم النصّ الفكري المتعلق بوجهة النظر، ليس المراد منه الوقوف على المعنى اللغوي فقط للنص، بل المراد منه فهم النصِّ لتنـزيله على الواقع المتعلق به، من أجل أن يتخذ المتعلِّم من الواقع الموقف المطلوب منه شرعاً، سواءً أكان بالعمل أم الترك، فهو يُدَرَّس هذا النوع من الأفكار لضبط سلوكه بأحكام الإسلام. فالتعليم لا يكون من أجل الترف الفكري، وإنما يكون من أجل بناء الشخصية الإسلامية عقلية ونفسية، التي تسعى لنيل رضوان الله في كل ما يصدر عنها من أفعال وأقوال.
وأمّا إن كانت الأفكار من النوع الثاني، أي من الأفكار التي ليس لها علاقة مباشرة بوجهة النظر الخاصة كالفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرها، فإنها تُدرَّس من أجل إعداد الطالب للتعامل مع الكون الذي سخره الله للإنسان، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)- الجاثية 13، وقال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ) – النحل 12. فالمسـلم ,كشخصية إسلامية, يتعلم العلوم التجريبية من أجل الانتفاع بها وتسـخـيرها لخـدمة مصـالح الأمة الإسلامية وقضاياها المصيرية. فالعلم لا يُطلب لذات العلم وإنَّما من أجل الانتفاع بالأفكار والمعارف التي يتعلمها الإنسـان في هذه الحياة حسب أحكام الإسلام. قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) – القصص (77).
5- أساليب التدريس ووسائله:
لكلِّ فكرة طريقة لتنفيذها، وأماّ الأسلوب فهو كيفية معينة للقيام بالعمل، وهو كيفية غير دائمة. وفي موضوع التعليم يُقْصَد بالأسلوب جميع أوجه النشاط الموجّه الذي يقوم به المعلم بغيةَ مساعدة تلاميذه على تحقيق المراد وهو إيصال الأفكار والمفاهيم وشتى المعارف بسرعة ونجاح. وهناك أساليب شتى يستطيع المعلم أن يختار منها ما يناسب الموقف التعليمي، فيراعي مستوى التلاميذ ويختار أفضلها تحقيقاً للهدف، مثل أساليب الحوار والمناقشة والقصَّة والمحاكاة وحلِّ المشكلات والتجارب والتدريب العملي المباشر، وهكذا. وكثيراً ما يحتاج الأسلوب إلى وسيلة أو أكثر للقيام بالعمل، فالوسائل والأساليب غير دائمة وهي تتغير وتتطور وتتعدد تبعاً للظروف والأشخاص والإمكانيات. وكما أنّه لا بدّ من وجود طريقة لتنفيذ أية فكرة، فإنَّ للوسائل والأساليب دوراً رئيسياً في تنفيذ هذه الطريقة. وإتمام القيام بالعمل بسرعة ونجاح يعتمد على الإبداع في إيجاد الوسائل والأساليب المناسبة للقيام بهذا العمل.
فطريقة التعليم – مثلاً – وهي الخطاب الفكري من المعلم والتلقي الفكري من المتعلم، كانت في السابق تتم بوسائل وأساليب، كالقلم والورق والمشافهة والتقليد والكتابة، فإنها تتمُّ اليوم أيضا بوسائل وأساليب, ولكنها تختلف عن الوسائل والأساليب السابقة, كالصور المطبوعة والمتحركة، والأشرطة الصوتية، والتجارب في المختبرات وغيرها. فعلى المدرسة استعمال الأساليب الموائمة لتركيز الطريقة العقلية عند الطلبة، لأنها الأساس في التفكير المستنير وفي النهضة على أساس الإسلام، فبها تـُحلّ العقدة الكبرى عند الإنسان، وبها يكوِّن الإنسان الفكرة الكلية الصحيحة عن الكون والإنسان والحياة، وعما قبل الحياة الدنيا وعما بعدها، وعن علاقتها بما قبلها وما بعدها، فيصل عن طريقها إلى العقيدة الإسلامية، التي هي أساس الدولة والأمة والنظام في الإسلام.
ومنذ القرن التاسع عشر للميلاد نجحت أوروبا ثم أميركا وروسيا نجاحا منقطع النظير في إيجاد الانقلاب الصناعي، الذي نتج من أسلوب البحث العلمي، فأطلقوا على هذا الأسلوب “الطريقة العلمية”. ومن بحثها يتبين أنَّها صحيحة وفعّالة في العلوم التجريبية فقط، وأنَّ تسميتها طريقة ليس خطأً، لأنَّها منهج معيَّن دائم في البحث. ولكن الخطأ هو جعلها أساساً للتفكير بدل الطريقة العقلية، لأنَّ ذلك يؤدي إلى الحكم على عدم وجود كثير من الحقائق والمعارف، التي توصل الإنسان إلى وجودها بالطريقة العقلية، كوجود الله تعالى، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فالطريقة العلمية إذن طريقة صحيحة ولكنها خاصة بالمادة المحسوسة الخاضعة للتجربة فقط، وذلك لمعرفة حقيقة المادة وخواصّها عن طريق إجراء تجارب عليها. إلاّ أنَّ الطريقة العقلية تظلّ بعناصرها الأربعة هي الأساس في التفكير، لكونها تستعمل في بحث المواد المحسوسة كالفيزياء وغيرها، وفي بحث الأفكار كالعقائد والتشريع والتاريخ، وفي بحث الكلام كالأدب وغيره. فإن حصل وتعارضت نتيجة عقلية مع نتيجة علمية عن وجود الشيء، تؤخذ النتيجة العقلية لأنَّ حكمها على وجود الشيء قطعي.
ويقتصر استعمال الطريقة العلمية في العلوم التجريبية، كالكيمياء والفـيـزياء للوصول إلى حقائق وصفات مواد الكون التي سخَّرها الله تعـالى للإنسـان، من أجل الاستفادة منها, ومن خصائصها, ضمن أحكام الإسلام.
ومن الأساليب التي اعتبرها بعض الفلاسفة طريقة في التفكير وبخاصة اليونانيين القدماء “البحث المنطقي”، والمنطق ليس طريقة في التفكير، ولا يرقى إلى منـزلة البحث العلمي (الطريقة العلمية)، فيظلّ المنطق أسلوبا من أساليب الطريقة العقلية (وهو بناء فكر على فكر للوصول إلى نتيجة) ولكنه أسلوب معقّد، فيه قابلية الخطأ والخداع والتضليل، وقد يوصل إلى عكس الحقيقة، ومن الأفضل تجنّبه. فإن حصل واستُعمل فيجب أن تخضع نتيجته للطريقة العقلية.
وعلى واضعي المناهج المدرسية والمعلمين، حين اقتراح الوسائل والأساليب لتدريس أي مادة أن يراعوا ما يلي من أفكار:
-
الوسائل والأساليب غير دائمة، فعلى المعلم أن يبدع في إيجاد الأساليب والوسائل الناجعة لتفهيم الطلاب الأفكار المقررة، مراعياً ظروفهم والفروق الفردية بينهم.
-
الحواس (السمع والبصر واللمس والشم والذوق) عنصر رئيس من عناصر التفكير التي بها ينتقل الحسّ بالواقع إلى الدماغ، فعلى المعلم أن يتيح للطلاب استعمال معظم هذه الحواس – ما أمكنه ذلك – في حسّ الواقع موضع التعليم (التفكير)، إن كان الواقع حاضراً عندهم حين التعليم، وإن لم يكن الواقع حاضرا قرّب هذا الواقع إلى أذهانهم، بالأساليب والوسائل المتاحة، حتى يتصوروه في أذهانهم كأنهم أحسّوه، لأن الإحساس بالواقع عنصر رئيس في التفكير. وكلما اشتركت حواس أكثر في حس الواقع الواحد كلما تعمق الإحساس به في نفس الإنسان، وكان حكمه عليه وعلى صفاته أكثر دقة.
-
مراعـاة الحـصـيلة اللغوية لدى الطلاب في كتابة المناهج وفي مخاطبتهم.
-
مراعاة خاصية إدراك الإنسان للصيغ الكلية للأشياء قبل إدراكه تفاصـيلها، وبخاصة الطلاب ما بين السادسة إلى العاشرة من أعمارهم، مما يستوجب:
-
تعليم الطلبة الكلمات الدالة على المعاني قبل تعليمهم الحروف. فبعد أن يدركوا أن هذه الكلمة تدلّ على هذا الواقع، يُبدأ بالعملية التحليلية للكلمة، وهي بيان الحروف والمقاطع التي تكوّنت منها الكلمة، وتصاحب العمليةَ التحليلية العمليةُ التركيبية، وهي تركيب كلمات جديدة من الحروف التي تعلموها، وتركيب جمل جديدة من الكلمات التي تعلموها. وبذلك يتمّ الجمع بين طريقتي تعليم اللغة: الطريقة الحَرْفيِّة والطريقة الجُمَلية.
-
تعليمهم صفات الأشياء الظاهرة قبل تعليمهم مكوِّناتها وخواصّها الدقيقة.
-
تعليمهم السيرة الإجمالية للشخصيات قبل تعليمهم تفصيلات حياة هذه الشخصيات وأعمالهم.
-
تعـلـيـمـهـم المعـنى العام والأفكار الأسـاسـيـة في النـص قـبـل تعليمهم الجزئيات والفرعيات.