مجلس الأمّـة (الشورى والمحاسبة)

أجهزة دولة الخلافة

ثالث عشر: مجلس الأمّـة (الشورى والمحاسبة)

هو مجلس يتكوّن من أشخاص يمثلون المسلمين في الرأي، ليرجع إليهم الخليفة لاستشارتهم في الأمور، وهم ينوبون عن الأُمة في محاسبة الحكام، وذلك أخذاً من استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم، لرجال من المهاجرين والأنصار يمثلون قومهم، ومن تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم، رجالاً من صحابته للشورى، كان يرجع إليهم أكثر من غيرهم في أخذ الرأي، منهم: أبو بكر، وعمر، وحمزة، وعلي، وسلمان الفارسي، وحذيفة…

وأخذاً من تخصيص أبي بكر رضي الله عنه رجالاً من المهاجرين والأنصار يرجع إليهم لأخذ رأيهم إذا نزل به أمر. وكان أهل الشورى في عهد أبي بكر رضي الله عنه هم العلماء وأصحاب الفتوى. أخرج ابن سعد عن القاسم: «أن أبا بكر الصديق كان إذا نزل به أمر يريد مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه فيه، دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار، دعا عمر، وعثمان، وعلياً، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت»، وكل هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكر، وإنما تصير فتوى الناس إلى هؤلاء، فمضى أبو بكر على ذلك، ثم وليَ عمر فكان يدعو هؤلاء النفر. كذلك وردت أدلة تدعو المسلمين لمحاسبة الحاكم، وقد مارس المسلمون ذلك كما حدث في عهد الخلفاء الراشدين. وكما للأمة أن تنيب في الشورى فلها أن تنيب في المحاسبة. كل ذلك يدلّ على إباحة أن يُتخذ مجلس خاص ينوب عن الأُمة في محاسبة الحكام، وفي الشورى الثابتة بنص القرآن والسنة. وأطلق عليه: مجلس الأُمة لأنه نائب عن الأُمة في المحاسبة والشورى.

ويجوز أن يكون في هذا المجلس أعضاء من غير المسلمين من الرعايا؛ من أجل الشكوى من ظلم الحكام لهم، أو من إساءة تطبيق الإسلام عليهم، أو عدم توفير الخدمات لهم ونحو ذلك.

|
  • واجب المحاسبة:

وكما أن للمسلمين حق الشورى على الخليفة، فإنه يجب عليهم محاسبة الحكام على أعمالهم وتصرفاتهم. والله سبحانه وتعالى فرض على المسلمين محاسبة الحكام، وأمرهم أمراً جازماً بمحاسبتهم والتغيير عليهم إذا هضموا حقوق الرعية، أو قصّروا بواجباتهم نحوها، أو أهملوا شأناً من شؤونها، أو خالفوا أحكام الإسلام، أو حكموا بغير ما أنزل الله. روى مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلّوْا». والصلاة هنا كناية عن الحكم بالإسلام.

وقد أنكر المسلمون أول الأمر، وعلى رأسهم عمر، على أبي بكر عزمه على محاربة المرتدين.

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله. فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق».

كما أنكر بلال بن رباح والزبير وغيرهم على عمر عدم تقسيمه أرض العراق على المحاربين. وكما أنكر أعرابي على عمر حمايته لبعض الأرض، فقد روى أبو عبيد في الأموال عن عامر بن عبد الله بن الزبير أحسبه عن أبيه قال: «أتى أعرابي عمر فقال: يا أمير المؤمنين، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها في الإسلام، علام تحميها؟ قال: فأطرق عمر، وجعل ينفخ ويفتل شاربه، وكان إذا كربه أمر فتل شاربه ونفخ، فلما رأى الأعرابي ما به جعل يردد ذلك عليه، فقال عمر: المال مال الله، والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبراً في شبر» وكان عمر قد حمى لخيل المسلمين بعض أراضي الملكية العامة. وكما أنكرت عليه امرأة نهيه عن أن يزيد الناس في المهور على أربعمائة درهم، فقالت له: ليس هذا لك يا عمر: أما سمعت قول الله سبحانه: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً}[020:004] فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر.

وكما أنكر علي رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين، قوله في إتمام الحج والعمرة، فقد روى أحمد بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير قال: «إنا لمع عثمان بالجحفة، ومعه رهط من أهل الشام، منهم حبيب بن مسلمة الفهري، إذ قال عثمان، وقد ذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج: إنَّ أَتـَمَّ للحجِّ والعمرة أن لا يكونا في أشهر الحج، فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زَوْرَتـَيْن كان أفضل. فإن الله تعالى قد وسع في الخير، وعلي بن أبي طالب في بطن الوادي يعلف بعيراً له. قال فبلغه الذي قال عثمان، فأقبل حتى وقف على عثمان فقال: أعمدت إلى سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورخصة رخص الله تعالى بها للعباد في كتابه، تضيق عليهم فيها وتنهى عنها، وقد كانت لذي الحاجة ولنائي الدار؟ … فأقبل عثمان على الناس فقال: وهل نهيت عنها؟ إني لم أنه عنها، إنما كان رأياً أشرت به، فمن شاء أخذ به، ومن شاء تركه».

ولهذا كله فمجلس الأُمة له حق الشورى، وعليه واجب المحاسبة.

وكما تبين مماسبق فإن هناك فرقاً بين الشورى والمحاسبة. فالشورى طلب رأي أو سماعه قبل اتخاذ القرار، والمحاسبة اعتراض بعد اتخاذ القرار أو تنفيذ العمل.

 

  • حقّ الشُّورى:

الشُّورى حق لجميع المسلمين على الخليفة، فلهم عليه أن يرجع إليهم في أمور لاستشارتهم فيها، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}[159:003]. وقال سبحانه {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[038:042] وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، يرجع إلى الناس ليستشيرهم، فقد استمع إلى مشورتهم يوم بدر في أمر مكان المعركة، واستشارهم يوم أُحد في القتال خارج المدينة أو داخلها، ونزل عند رأي الحباب بن المنذر في الحالة الأولى، وكان رأياً فنياً صدر عن خبير فأخذ به، ونزل عند رأي الأكثرية يوم أُحد مع أن رأيه كان بخلافه.

وقد رجع عمر إلى المسلمين في أمر أرض العراق: أيوزعها على المسلمين لأنها غنائم؟ أو يبقيها في يد أهلها، على أن يدفعوا خراجها، وتبقى رقبتها ملكاً لبيت مال المسلمين؟ وقد عمل بما أداه إليه اجتهاده، ووافقه عليه أكثر الصحابة، فترك الأرض بأيدي أصحابها على أن يؤدوا خراجها.

 

  • انتخاب أعضاء مجلس الأُمّة:

ينتخب أعضاء مجلس الأُمة انتخاباً، ولا يعينون تعييناً؛ وذلك لأنهم وكلاء في الرأي عن الناس، والوكيل إنما يختاره موكله، ولا يُفرَض الوكيل على الموكِل مطلقاً، ولأن أعضاء مجلس الأُمة ممثلون للناس أفراداً وجماعات في الرأي، ومعرفة الممثل في البقعة الواسعة، والقوم غير المعروفين، لا تتأتى إلا لمن يختاره ممثلاً له، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يختر من يرجع إليهم في الرأي على أساس مقدرتهم وكفايتهم وشخصيتهم، بل اختارهم على أساسين: أولهما أنهم نقباء على جماعتهم، بغض النظر عن كفايتهم ومقدرتهم، وثانيهما أنهم ممثلون عن المهاجرين والأنصار. فالغرض الذي وُجِد من أجله أهل الشورى هو التمثيل للناس، فيعتبر الأساس الذي يختار عليه أعضاء مجلس الأُمة هو: التمثيل بالنسبة للناس كما هي الحال في تعمُّد الاختيار من النقباء، والتمثيل بالنسبة للجماعات كما هي الحال في تَعمُّد الاختيار عن المهاجرين والأنصار. وهذا التمثيل للأفراد والجماعات للناس غير المعروفين لا يتحقق إلا بالانتخاب، فيتحتم انتخاب أعضاء مجلس الأُمة. أما كون الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي تولى اختيار مَن يستشيرهم؛ فلأن البقعة التي كان المهاجرون والأنصار فيها كانت ضيقة وهي المدينة، ولأن المسلمين كانوا معروفين لديه، بدليل أنه في بيعة العقبة الثانية لم يكن المسلمون الذين بايعوه معروفين لديه، فترك أمر انتخاب النقباء لهم، وقال لهم: «أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم» ذكره ابن هشام في السيرة من طريق كعب بن مالك.

وعلى ذلك فإنه يستنبط من كون أعضاء مجلس الأُمة وكلاء في الرأي، ومن كون العِلّة التي وُجد من أجلها مجلس الأُمة هي التمثيل للأفراد والجماعات في الرأي والمحاسبة، ومن عدم تحقق هذه العِلّة في الناس غير المعروفين إلا في الانتخاب العام، يستنبط من ذلك كله، أن أعضاء مجلس الأُمة ينتخبون انتخاباً، ولا يعينون تعييناً.

 

  • كيفية انتخاب مجلس الأمة:

1 – ذكرنا عند الحديث عن الولاة أننا نتبنى انتخاب مجلس للولاية يمثل أهلها لغرضين: الأول تقديم المعلومات اللازمة للوالي عن واقع الولاية واحتياجاتها، وذلك لمساعدة الوالي في القيام بعمله بشكل يوفر عيشاً مطمئناً آمناً لأهل الولاية، وييسر لهم قضاء حاجاتهم وتوفير خدماتهم. والثاني لإظهار الرضا أو الشكوى من حكم الوالي لهم، حيث إن شكوى مجلس الولاية بغالبيته من الوالي توجِب عزل الوالي. أي أن واقع مجلس الولاية هو واقع إداري لمساعدة الوالي بتبصيره بواقع الولاية ولإظهار الرضا أو الشكوى منه. وكل ذلك يدفعه إلى إحسان عمله. وليس لهذا المحلس صلاحيات أخرى كما هي لمجلس الأمة المبينة فيما بعد.

2 – ثم إننا هنا نتبنى إيجاد مجلس الأمة (الشورى والمحاسبة)، وأنه يجب أن يكون منتخَباً وممثلاً للأمة، وله الصلاحيات المنصوص عليها في موضعها المبيَّن لاحقاً.

3 – وهذا يعني أن هناك انتخاباً لاختيار أعضاء مجالس الولايات، وأن هناك انتخاباً لأعضاء مجلس الأمة.

4 – ولتسهيل عملية الانتخاب وعدم إشغال الرعية بتكرار الانتخاب، فإننا نتبنى أن تُنتخَب مجالس الولايات أولاً ثم يجتمع الناجحون في مجالس الولايات فينتخبون من بينهم أعضاء مجلس الأمة، أي أن مجالس الولايات تُنتخَب انتخاباً مباشراً من الأمة، وأن مجلس الأمة تنتخبه مجالس الولايات. وهذا يعني أن يكون بدء وانتهاء مدة مجلس الأمة هو نفسه بدء وانتهاء مدة مجلس الولايات.

5 – الذي ينتخب من مجالس الولايات عضواً في مجلس الأمة، يحل محله صاحب أكثر الأصوات الذي فشل في انتخابات مجلس ولايته، وإن تساوى أكثر من واحد يقرع بينهم.

6 – ينتخب أهل الذمة ممثليهم من مجالس الولايات، وممثلوهم هؤلاء ينتخبون ممثليهم في مجلس الأمة، وكل ذلك بالتزامن مع انتخابات مجالس الولايات ومجلس الأمة في الدولة.

وبناءً عليه أُعِدَّ قانون يأخذ في الاعتبار الأمور السابقة، ويبين إجراءات انتخاب مجالس الولايات، وكذلك مجلس الأمة، وستتم مناقشته وتبنيه في الوقت المناسب بإذن الله.

 

  • مدة عضوية مجلس الأُمّة:

تحدد مدة العضوية لمجلس الأُمة، لأن الذين كان يرجع إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، في الشورى لم يتقيد بالرجوع إليهم أبو بكر، وإن عمر بن الخطاب لم يتقيد بالرجوع للأشخاص الذين كان يرجع إليهم أبو بكر. وقد رجع عمر إلى رأي أشخاص في أواخر حكمه، غير الذين رجع إليهم في أوائل حكمه. وهذا يدل على توقيت عضوية مجلس الأُمة بمدة معينة. ونحن هنا نتبنى أن تكون هذه المدة خمس سنوات.

 

  • عضوية مجلس الأُمّة:

لكل مسلم يحمل التابعية إذا كان بالغاً عاقلاً الحق في عضوية مجلس الأُمة، وله الحق في انتخاب أعضاء مجلس الأُمة، سواء أكان رجلاً أم امرأة؛ وذلك لأن مجلس الأُمة ليس من قبيل الحكم، ولا يدخل في الحديث الشريف الذي يمنع المرأة من أن تكون حاكماً، بل هو من قبيل الشورى والمحاسبة، وهو حق للمرأة كما هو حق للرجل. فالرسول صلى الله عليه وسلم قد قدم عليه في السنة الثالثة عشرة للبعثة (أي السنة التي هاجر فيها) خمسة وسبعون مسلماً، منهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وبايعوه جميعاً بيعة العقبة الثانية، وهي بيعة حرب وقتال، وبيعة سياسية. وبعد أن فرغوا من بيعته قال لهم جميعاً: «أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً، يكونون على قومهم» من حديث طويل أخرجه أحمد من طريق كعب بن مالك. وهذا أمر منه للجميع، بأن ينتخبوا من الجميع، ولم يُخصّص الرجال، ولم يستثن النساء، لا فيمن ينتخِب (بكسر الخاء)، ولا فيمن يُنتخَب (بفتحها)، والمطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد دليل التقييد، كما أن العام يجري على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص، وهنا جاء الكلام عاماً ومطلقاً، ولم يرد أي دليل للتخصيص والتقييد، فدل على أن الرسول أمر المرأتين أن تنتخبا النقباء، وجعل للمرأتين حق انتخابهما من المسلمين نقيبتين.

وقد جلس الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً ليبايعه الناس، وجلس معه أبو بكر وعمر، فبايعه الرجال والنساء. ولم تكن هذه البيعة إلا بيعة على الحكم، لا على الإسلام؛ لأنهنّ كنَّ مسلمات. وبعد بيعة الرضوان في الحديبية، بايعته النساء أيضاً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[012:060] ، وهذه بيعة على الحكم أيضاً؛ لأن القرآن يقرر أنهن مؤمنات، وكانت البيعة على أن لا يعصينه في معروف.

وعلاوة على ذلك فإن للمرأة الحق في أن توكل عنها في الرأي، ويوكلها غيرها فيه؛ لأن لها حق إبداء الرأي، فلها أن توكل فيه، ولأن الوكالة لا تشترط فيها الذكورة، فلها أن تتوكَّل عن غيرها.

ولأن الثابت عن سيدنا عمر أنه كان حين تعرض له نازلة يريد أخذ رأي المسـلمين فيها، سـواء أكانت النازلة تتعلق بالأحكام الشرعية، أم تتعلق بالحكم، أم بأي عمل من الأعمال التي للدولة، كان إذا عرضت له نازلة دعا المسلمين إلى المسجد، وكان يدعو النساء والرجال، ويأخذ رأيهم جميعاً، وقد رجع عن رأيه حين ردته امرأة في أمر تحديد المهور.

وكما أن للمسلمين الحق في مجلس الأمة، فإن غير المسلمين كذلك لهم أن يتمثلوا في مجلس الأمة، ويكونوا نواباً فيه عن منتخبيهم ليبدوا الرأي نيابة عنهم في إساءة تطبيق أحكام الإسلام عليهم، وفيما يلحقهم من ظلم الحاكم.

غير أنه مع ذلك ليس لغير المسلمين الحق في إبداء الرأي في الأحكام الشرعية؛ لأن الشرع الإسلامي ينبثق عن العقيدة الإسلامية، فهو أحكام شرعية عملية مستنبطة من أدلتها التفصيلية، ولأنه يعالج مشاكل الإنسان حسب وجهة نظر معينة تعينها العقيدة الإسلامية، وغير المسلم يعتنق عقيدة تناقض العقيدة الإسلامية، ووجهة نظره في الحياة تتناقض مع وجهة نظر الإسلام، فلا يؤخذ رأيه في الأحكام الشرعية.

وكذلك ليس لغير المسلم الحق في انتخاب الخليفة، ولا في حصر المرشحين للخلافة لينتخب منهم الخليفة؛ لأنه ليس له الحق في الحكم. أما باقي الأشياء التي من صلاحيات مجلس الأُمة، فهو كالمسـلـم فيهـا وفي إبـداء الـرأي بشأنها.

 

  • صلاحيات مجلس الأمة:

    – أولا:

(أ) استشارة الخليفة له وإشارته على الخليفة في الأعمال والأمور العملية المتعلقة برعاية الشؤون في السياسة الداخلية مما لا تحتاج إلى بحث فكري عميق وإنعام نظر، مثل توفير الخدمات اللازمة للرعية لتشعر بطمأنينة العيش من حيث شؤون الحكم، والتعليم، والصحة، والاقتصاد، والتجارة، والصناعة، والزراعة، وأمثالها، ومثل طلبهم تحصين مدنهم، وحفظ أمنهم، ودفع خطر العدو عنهم، ويكون رأي المجلس في كل ذلك ملزماً للخليفة، أي ينفذ رأي الأكثرية.

(ب) أما الأمور الفكرية التي تحتاج إلى بحث عميق وإنعام نظر، مثل كشف الحقائق، أو اتخاذ قرار الحرب. والأمور التي تحتاج خبرة ومعلومات ودراية، مثل إعداد الخطط الحربية، وكل الأمور الفنية والعملية، فهذه الأمور السابقة تؤخذ من أهل الاختصاص وليس من رأي الأكثرية. وكذلك المالية، والجيش، والسياسة الخارجية، فهذه الأمور يتولاها الخليفة برأيه واجتهاده وفق الأحكام الشرعية وليس من رأي المجلس. وللخليفة أن يرجع للمجلس لاستشارته فيها، والوقوف على رأيه، وكذلك للمجلس أن يعطي رأيه فيها، لكن رأي المجلس فيها غير ملزم.

الدليل:
البند الأول: أ- أما دليل كون رأي مجلس الأمة في الأعمال والأمور العملية، مما لا يحتاج إلى بحث وإنعام نظر ملزماً، فذلك: أخذاً من نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم، على رأي الأكثرية في الخروج من المدينة لملاقاة جيش المشركين في معركة أحد، مع أن رأيه عليه الصلاة والسلام ورأي كبار الصحابة، كان البقاء في المدينة، وعدم الخروج منها، وأخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم، لأبي بكر وعمر رضي الله عنهم: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما»؛ ولذلك فإن الأمور العملية المتعلقة بالرأي المؤدي إلى عمل، من حيث توفير الخدمات للرعية لاطمئنانهم في عيشهم، ومن حيث حفظ أمنهم وتحصين مدنهم ودفع الخطر عنهم، كل هذه يكون رأي الأكثرية في المجلس ملزماً للخليفة حتى وإن خالف رغبته، كما حدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم، في الخروج إلى أحد نزولاً عند رأي الأكثرية.

البند الأول: ب- إن الأصل فيه أن يأخذ الخليفة رأي العلماء، وأرباب الخبرة، وأهل الاختصاص، فيما اشتمل عليه هذا القسم من أمور، كما حصل حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، برأي الحباب بن المنذر في اختيار موقع معركة بدر، جاء في سيرة ابن هشام: «إنه صلى الله عليه وسلم، ، حين نزل عند أدنى ماء من بدر، لم يرض الحباب بن المنذر بهذا المنزل، وقال للرسولصلى الله عليه وسلم، : يا رسول الله، أرأيت هذا المنـزل، أمنـزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنـزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننـزله، ثم نغوّر ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، : لقد أشرت بالرأي، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فغُوّرت، وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية»، فالرسول صلى الله عليه وسلم، استمع إلى قول الحباب وتبع رأيه.
ففي هذه الحادثة التي هي من قبيل الرأي والحرب والمكيدة، لم تكن لآراء الناس أية قيمة في تقريرها، وإنما كانت لرأي الخبير، ومثلها الأمور الفنية والفكر الذي يحتاج إلى بحث وإنعام نظر. وكذلك التعريف، فإنه يرجع فيها لأرباب الخبرة وأصحاب الاختصاص، وليس لآراء الناس، إذ لا قيمة فيها للكثرة، وإنما القيمة للعلم والخبرة والاختصاص.

ومثل ذلك أيضـاً الأمور المالية؛ لأن الـشـرع عيّن أنواع الأموال التي تجبى، وعين وجوه إنفاقها، كما عيّن متى تفرض الضرائب، وعلى هذا لا عبرة برأي الناس في جـبـاية الأمـوال ولا في صـرفها. وكذلك الجـيش، فإن الـشـرع جعل تدبير أموره للخـليفة، وعيّن أحكام الجهاد، فلا عبرة لرأي الناس فيمـا قـرره الـشـرع. وكذلك الأمر بالنسـبة لعـلاقة الدولة بغـيرها من الدول؛ لأن ذلك من الفكر الذي يحتاج إلى بحث وإنعام نظر، وله علاقة بالجـهـاد، ثم هو من نوع الرأي والحرب والمكيدة؛ ولذلك لا عبرة لرأي الناس فيه كثرة وقلة، ومع ذلك فإنه يجـوز للخـليفة أن يعرض هذه الأمور على مجلس الأُمة لاستشارته فيها، وأخذ رأيه؛ لأن العرض ذاته من المباحـات، ورأي المجـلس في هذه الأمـور ليس ملـزماً كمـا ثبـت ذلك في حادثة بدر، وإنما القرار لصاحب الصلاحية.

ولتوضيح الفرق بين (أ) و(ب) في البند الأول نقول:
عند إنشاء جسر على نهر لخدمة مصالح الناس في قرية ما شبه معزولة من حيث المواصلات ونحوها فإن رأي أكثرية المجلس في ذلك ملزم للخليفة بإنشاء الجسر لحل مشكلة المواصلات للقرية. ولكن تقرير المكان المناسب فنياً لإنشاء الجسر، وأنجح التصاميم الهندسية للجسر: أهو معلق أم على ركائز في داخل النهر… إلخ فهذا يستشار فيه أصحاب الخبرة والاختصاص، وليس أكثرية المجلس.

وكذلك فإن توفير مدرسة لأبناء قرية يجد أبناؤها صعوبةً بالغةً في الوصول إلى المدارس في المدن، يكون فيه رأي أكثرية مجلس الأمة ملزماً للخليفة. أما اختيار موقع المدرسة في القرية من حيث قوة التربة في هذا الموقع المناسب للتصميم، وكذلك كيفية بنائها، وأن تكون مملوكة للدولة أي تُبنى أو تشترى، أو لا تكون، بل تستأجر سنةً أو سنتين ونحو ذلك، يستشار فيه أصحاب الخبرة والاختصاص وليس أكثرية المجلس مع أن للخليفة أن يستشيرهم في ذلك ولكن رأيهم غير ملزم.

وأيضاً فإن بلداً على الثغور (خط مواجهة مع العدو) فإن رأي أكثرية مجلس الأمة ملزم من حيث تحصين القرية وإبعاد خطر العدو عنها وعدم تعريضها للقتل والتشرد عند أي اعتداء من العدو …، ولكن كيفية إنشاء هذه التحصينات وأية وسائل قتالية تستعمَل لرد الخطر عنها … فهذا كله يستشار فيه أهل الخبرة والاختصاص وليس أكثرية المجلس.
وهكذا.

 

  • – ثانيا:

لا يؤخذ رأي المجلس في التشريع، بل يؤخذ التشريع من كتاب الله وسنة رسوله وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس الشرعي، وذلك باجتهاد صحيح، ويكون تبني الأحكام الشرعية وسن القوانين على هذا الوجه. وللخليفة أن يحيل إلى المجلس الأحكام والقوانين التي يريد أن يتبناها، وللمسلمين من أعضائه حق مناقشتها وبيان وجه الصواب والخطأ فيها، فإن اختلفوا مع الخليفة في صحة استنباطها أو دليلها، من حيث مخالفتها لطريقة التبني من الأصول الشرعية المتبناة في الدولة، فإن الفصل في ذلك يرجع إلى محكمة المظالم، ورأي المحكمة في ذلك ملزم. 

الدليل:
أما البند الثـاني فإن التشــريع هو لله وحــده {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ }[057:006] و {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }[056:004] وكذلك في تفسيره صلى الله عليه وسلم، للآية {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ}[031:009] أخرج الترمذي من طريق عَدِيّ بن حاتم قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح عنك هذا الوثن. وسمعته يقرأ في سورة براءة {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ}[031:009] قال: أَمَا إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه»؛ ولذلك فالتشريع لا يؤخذ من رأي المجلس، لا بإجماع ولا بأكثرية، بل يؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله وما أرشدا إليه باجتهاد صحيح؛ ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم، قد رفض رأي كثير من المسلمين في صلح الحديبية، وقال صلى الله عليه وسلم، : «إني عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره» لأن الصلح كان وحياً من الله سبحانه؛ ولذلك لا يرجع إلى رأي الناس في التشريع. وعلى هذا الأساس يكون تبني الأحـكام الشـرعية، وسـن القوانين، وتبني الأحـكام والقـوانين، هو من صلاحيات الخليفة وحده كما سبق وبيّـنا. إلا أن للخليفة مع ذلك أن يعرض ما يريد أن يتبناه من أحكام شرعية وقوانين على مجلس الأُمة لمعرفة رأيه فيه، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الرجوع إلى المسلمين في الأحكام الشرعية، وعدم إنكار الصحابة عليه، وذلك في حادثة الأراضي المفتوحة في العراق، وكان المسلمون قد طلبوا منه أن يقسمها على المحاربين الذين فتحوها، فسأل الناس، ثم استقر رأيه على إبقائها بأيدي أصحابها، على أن يدفعوا عنها خراجاً معلوماً، إضافة إلى دفع الجزية عن رؤوسهم. وإنّ رجوع عمر، ومن قبله أبو بكر، للصحابة لسؤالهم وأخذ رأيهم في الأحكام الـشـرعية، وعـدم إنكار الـصـحـابة ذلك عليهما، هو دليل إجماع من الصـحابة على جواز ذلك.

وأما الرجوع إلى محكمة المظالم إذا اختلف الخليفة مع مجلس الشورى في صحة استنباط هذه القوانين، أو دليلها من حيث طريقة التبني من الأصول المتبناة في الدولة، فإن من صلاحية قاضي المظالم النظر في الحكم الذي يتبناه الخليفة، هل له دليل شرعي، وهل ينطبق الدليل على الحادثة؛ ولذلك فإذا اختلف الخليفة مع المجلس (أي مع أكثرية المجلس)، في الحكم الذي تبناه الخليفة من كونه حكماً شرعياً صحيحاً أو لا، فإن هذا النـزاع يفصل فيه قاضي المظالم؛ لأنه من اختصاصه ورأي محكمة المظالم ملزم.

ولا حق لغير المسلمين من أعضاء المجلس في النظر فيما يريد الخليفة أن يتبناه من أحكام وقوانين، وذلك لعدم إيمانهم بالإسلام، ولأنّ حقهم في إبداء الرأي هو فيما يقع عليهم من ظلم الحكام، وليس في إعطاء الرأي في الأحكام والقوانين الشرعية.

 

  • – ثالثا:

للمجلس الحق في محاسبة الخليفة على جميع الأعمال التي تحصل بالفعل في الدولة، سواء أكانت من الأمور الداخلية، أم الخارجية، أم المالية، أم الجيش، أم غيرها، ورأي المجلس ملزم فيما كان رأي الأكثرية فيه ملزماً، وغير ملزم فيما كان رأي الأكثرية فيه غير ملزم.
وإن اختلف المجلس مع الخليفة على عمل قد تمّ بالفعل من الناحية الشرعية، فيرجع فيه إلى محكمة المظالم للبتّ فيه من حيث الشـرعية وعدمهـا، ورأي المحـكمـة فيه ملـزم.

الدليل:
وأما البند الثالث فإن دليله عموم النصوص التي جاءت في محاسبة الحكام، روى أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، : «سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا يفعلون، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، ولن يَرِدَ عليّ الحوض»، وروى أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، : «… أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، وروى الحاكم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»، وروى مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سَلِمَ، ولكن من رضي وتابع…». فهذه النصوص عامة تدل على محاسبة الحاكم وفق أحكام الشرع، وأن المحاسبة تكون على جميع الأعمال؛ وعلى هذا فالمحاسبة من المجلس للخليفة ولغيره من المعاونين والولاة والعمال تكون على كل عمل حصل بالفعل، سواء أكان مخالفاً للحكم الشرعي، أم كان خطأً، أم كان ضاراً بالمسلمين، أم كان فيه ظلم للرعية، أو تقصير في القيام برعاية شؤونها، ويجب على الخليفة أن يردّ على المحاسبة والاعتراضات ببيان وجهة نظره وحجته فيما قام به من أعمال وأقوال وتصرفات، حتى يطمئن المجلس إلى حسن سير الأمور والأعمال، واستقامة الخليفة. أما إن لم يقبل المجلس وجهة نظر الخليفة، ورفض حجّته، فينظر، فإن كان حصل ذلك فيما فيه رأي الأكثرية ملزمٌ فرأي المجلس فيه ملزم، مثل الأمور في (أ) وإلا فرأيه غير ملزم مثل الأمور في (ب)، فمثلاً إذا كانت المحاسبة لماذا لَم يوفر المدرسة في المثال السابق فالمحاسبة ملزمة، وإذا كانت المحاسبة لماذا تبنى المدرسة بالتصميم الفلاني وليس الفلاني فالمحاسبة غير ملزمة.

هذا، وإن اختلف المحاسبون مع الحكام في أمرٍ من الأمور من الناحية الشرعية، فيرجع إلى قضاء المظالم بطلب من المجلس؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}[059:004] ومعناه إن تنازعتم أيها المسلمون مع أولي الأمر في شيء فردوه إلى الله والرسول، أي احتكموا إلى الشرع، والاحتكام إلى الشرع هو الرجوع إلى القضاء، ولهذا يرجع إلى محكمة المظالم، ورأيها فيه ملزم، لأنها هي صاحبة الاختصاص في هذه الحالة.

 

  • – رابعا:

للمجلس الحق في إظهار عدم الرضا عن المعاونين والولاة والعمال، ويكون رأي أكثرية المجلس في ذلك ملزماً، وعلى الخليفة عزلهم في الحال. وإذا تعارض رأي مجلس الأمة مع رأي مجلس الولاية المعنية في الرضا أو الشكوى من الولاة والعمال، فإن لرأي مجلس الولاية الأولوية في ذلك.

الدليل:
وأما البند الرابع فدليله أن الرسول صلى الله عليه وسلم، عزل العلاء بن الحضرمي عامله على البحرين؛ لأن وفد عبد القيس قد شكاه للرسول صلى الله عليه وسلم، ، روى ابن سعد من طريق محمد بن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد كتب إلى العلاء بن الحضرمي أن يقدم عليه بعشرين رجلاً من عبد القيس، فقدم عليه بعشرين رجلاً رأسهم عبد الله بن عوف الأشجّ، واستخلف العلاء على البحرين المنذر بن ساوى، فشكا الوفد العلاء بن الحضرمي، فعزله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولّى أبان بن سعيد بن العاص، وقال له استوصِ بعبد القيس خيراً، وأكرم سراتهم»، وأيضاً فإن عمر بن الخطاب عزل سعد بن أبي وقاص عن الولاية لمجرد شكوى الناس عليه، وقال: «إني لم أعزله عن عجز، ولا عن خيانة». مما يدل على أن أهل الولايات لهم حق إظهار السخط وعدم الرضا من ولاتهم وأمرائهم، وأن على الخليفة عزلهم لأجل ذلك، أي أن لمجالس الولايات، وكذلك لمجلس الأمة – حيث هو وكيل عن جميع المسلمين في الولايات – أن يظهر عدم الرضا من الولاة والعمال، وعلى الخليفة عزلهم في الحال إذا كانت الشكوى من أكثرية مجلس الولاية أو أكثرية مجلس الأمة وعند تعارضهما فالأولوية لمجلس الولاية لأنه هو أكثر علماً ودرايةً بأحوال الوالي من مجلس الأمة.

 

  • – خامسا:

للمسلمين من أعضائه حق حصر المرشحين للخلافة من الذين قررت محكمة المظالم توفر شروط الانعقاد فيهم، سواء أكان ذلك في حصرهم بستة أم باثنين كما هو مبين في موضعه عند انتخاب الخليفة. ورأي أكثريتهم في ذلك ملزم، فلا يقبل ترشيح غير من حصر المجلس الترشيح فيهم. 

الدليل:
وأما البند الخامس فهو مسألتان:
الأولى حصر المرشحين، والثانية كون الحصر بستة ثم باثنين.

أما الأولى فإنه من تتبع كيفية تنصيب الخلفاء الراشدين يتبين أن هناك حصراً للمرشحين كان يتم من ممثلي المسلمين مباشرةً، أو بأن يطلبوا ذلك من الخليفة ليحصر الترشيح نيابةً عنهم.

ففي سقيفة بني ساعدة كان المرشحون أبا بكر وعمر وأبا عبيدة وسعد بن عبادة، واكتفي بهم أي حصر فيهم، وتم ذلك بموافقة أصحاب السقيفة، ثم موافقة الصحابة فيما بعد حيث بايعوا أبا بكر.

وفي أواخر أيام أبي بكررضي الله عنه استشار المسلمين نحو ثلاثة شهور يبحث معهم الخـلافة من بعده، وبعد أن ناقشوه في ذلك وافقوا على ترشيحه لهم عمر أي حصر الترشيح في واحد.

وقد كان الحصر أكثر وضوحاً وأشد جلاءً بعد طعن عمر فقد طلبوا منه، رضي الله عنهم، أن يرشح لهم فجعلها في ستة، ومنع غيرهم، وشدد في ذلك كما هو معروف

وعند بيعة علي رضي الله عنه، فهو كان المرشح الوحيد ولَم يكن معه غيره، فلم تكن هناك حاجة للحصر.

وكان الحصر يتم على ملأ من المسلمين، وهو مما ينكر ولا ينفذ لو كان غير جائز حيث فيه منع لحق الآخرين من الترشيح. ولذلك فإن حصر المرشحين للخـلافة جائز لإجماع الصحابة. فللأمة، أي ممثليها، أي تحصر المرشحين، سواء أكان ذلك من الأمة مباشرةً، أم بتفويض الخليفة السابق بأن يحصر نيابةً عنهم.

هذا من حيث الحصر. أما كون الحصر في ستة ابتداءً فهو استئناساً بفعل عمر رضي الله عنه. وأما كون الحصر بعد ذلك باثنين فهو استئناساً بفعل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكذلك لتحقيق معنى البيعة بأكثرية المنتخِبين المسلمين، حيث إن المرشحين إن كانوا فوق اثنين، فإن الذي ينجح منهما قد يكون بنسبة ثلاثين في المئة مثلاً من المنتخِبين أي أقل من أكثريتهم (فوق خمسين في المئة)، وتتحقق الأكثرية للفائز إذا كان المرشحون لا يزيدون عن اثنين.

أما أن يكون حصر مجلس الأمة للستة وللاثنين من المرشحين الذين قررت محكمة المظالم توفر شروط الانعقاد فيهم، فذلك لأن حصر مجلس الأمة هو لأجل أن ينتخب الخليفة منهم أي لا بد أن تتوفر فيهم شروط الانعقاد.  ولذلك فإنَّ محكمة المظالم تستبعد كل من لا تتوفر فيهم شروط الانعقاد من المرشحين للخـلافة، وبعد ذلك يقوم مجلس الأمة بعملية الحصر من المرشحين الذين قررت المحكمة توفر شروط الانعقاد فيهم.
ومن هنا كان البند الخامس.

 

  • حقّ التكلُّم وإبداء الرأي دون حَرَج:

لكل عضو من أعضاء مجلس الأُمة الحق في التكلّم، وإبداء الرأي كما يشاء دون أي حرج، في حدود ما أحَلّه الشرع. فالعضو وكيل ينوب عن المسلمين في إعطاء الرأي، وفي المحاسبة، فعمله عمل تقصٍّ لما يقوم به الخليفة، أو أي حاكم في الدولة، أو أي موظف في أي جهاز من أجهزتها. وعمله المحاسبة لكل هؤلاء مع إبداء النصح لهم، وإعطاء الرأي، وتقديم الاقتراحات، ومناقشتها، والاعتراض على الأعمال المخالفة التي تحصل من الدولة. وقيامه بكل ذلك إنما هو نيابة عن المسلمين، في قيامهم بواجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومحاسبة الحكام، وإبداء النصح والمشورة لهم؛ لأن ذلك واجب على المسلمين. قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[110:003]، وقال: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ }[041:022]، وقال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[104:003] كما وردت أحاديث كثيرة تدل على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثمّ لتدعنّه فلا يستجيب لكم» رواه أحمد من طريق حذيفة، وقوله: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم من طريق أبي سعيد.

فهذه الآيات والأحاديث تأمر المسلمين بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ومحاسبةُ الحكام إنما هي من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بل وردت أحاديث تنصُّ على محاسبة الحاكم خاصة، لما لمحاسبة الحاكم وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر من أهمية. فعن أم عطية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، فهذا نصّ في محاسبة الحاكم، ووجوب قول كلمة الحقّ عنده، وجعله كالجهاد، بل أفضل الجهاد، وقد شدّد في الحث عليه، والترغيب فيه، حتى لو أدى إلى القتل. كما ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلمحيث قال: «سـيد الـشـهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله».

والرسول صلى الله عليه وسلم، حين عارضه الصحابة في عقد صلح الحديبية معارضة شديدة، لم يزجرهم على معارضتهم، وإنما رفض رأيهم، وأمضى عقد الصلح؛ لأن ما فعله كان وحياً من الله سبحانه، ولا قيمة لرأي الناس فيه، وكان زجره لهم؛ لأنهم لم يطيعوا أمره عندما طلب منهم ذبح الهدي، وحلق رؤوسهم، والتحلل من الإحرام. وأيضاً فإن الرسول صلى الله عليه وسلملم يزجر الحباب بن المنذر في بدر حين اعترض على المنـزل الذي نزله، وإنما اتبع رأيه.

وكذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلمقد نزل في أُحد على رأي الأكثرية في الخروج خارج المدينة لملاقاة قريش، مع أن رأيه كان على خلاف ذلك، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ذلك يسمع اعتراضهم ويجيبهم عليه.

والصحابة، رضوان الله عليهم، قد حاسبوا الخلفاء الراشدين من بعده صلوات الله وسلامه عليه، فلم يزجرهم الخلفاء الراشدون. فقد حاسبوا عمر بن الخطاب، وهو على المنبر على تقسيمه الأبراد اليمانية، كما اعترضت عليه امرأة لأنه نهى عن زيادة المهور، كما اعترضوا عليه وحاسبوه لأنه لم يقسم أرض العراق بعد فتحها، وقد اشـتد عليه في ذلك بلال والزبير، وكان يحـاورهم ويسـتشـير الـصـحـابة حتى أقنعهم برأيه.

لذلك فإن لأي عـضـو في مجـلـس الأُمـة باعـتبـاره يمـثـل المـسـلمين أن يتكلم في المجـلس كما يشـاء، وأن يبـدي الـرأي كما يشـاء، دون أي منع، ودون أي حرج، وله أن يحاسب الخليفة، والمعاون، والوالي، وأي موظـف في جهاز الدولة، وعليهم أن يجـيـبـوه ما دام ملتزماً بأحكام الشـرع في محاسبته وإبداء رأيه.

وكذلك فإن لأعضاء مجلس الأمة من غير المسلمين حق إبداء رأيهم فيما يقع عليهم من ظلم الحكام، دون أي منع ودون أي حرج ما دام ذلك ضمن أحكام الشرع في إبداء الرأي.

 

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة