نظام العقوبات

نظام العقوبات

العقوبات

شرعت العقوبات لزجر النّاس عن الجرائم، قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ}[179:001] أي في شرع القصاص لكم، وهو قتل القاتل، حكمة عظيمة، وهي بقاء المهج وصونها، لأنّه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنعه، فكان في ذلك حياة للنفوس، ولأن الغالب من حال العاقل أنه إذا علم أنه إذا قَتل قُتل، أنه لا يُقدم على القتل، وهكذا جميع الزواجر. ومعنى كونها زواجر أن ينزجر النّاس.

والجريمة هي الفعل القبيح، والقبيح هو ما قبحه الشرع، ولذلك لا يعتبر الفعل جريمة إلاّ إذا نص الشرع على أنه فعل قبيح، فيعتبر حينئذ جريمة، وذلك بغض النظر عن درجة قبحه، أي بغض النظر عن كون الجريمة كبيرة أو صغيرة، فقد جعل الشرع الفعل القبيح ذنباً يعاقب عليه، فالذنب هو الجريمة بعينها.

وليست الجريمة موجودة في فطرة الإنسان، ولا هي مكتسبة يكتسبها الإنسان، كما أنّها ليست مرضاً يصاب به الإنسان، وإنما هي مخالفة النظام، الذي ينظم أفعال الإنسان، في علاقته بربه وبنفسه، وعلاقات النّاس بعضهم ببعض. وذلك أن الإنسان قد خلقه الله تعالى، وخلق فيه غرائز وحاجات عضوية، وهذه الغرائز والحاجات العضوية طاقات حيوية في الإنسان، تدفعه لأنّ يسعى لإشباعها. فهو يقوم بالأعمال التي تصدر عنه من أجل هذا الإشباع. وترك هذا الإشباع دون نظام يؤدي إلى الفوضى والاضطراب، ويؤدي إلى الإشباع الخاطئ، أو الإشباع الشاذ. وقد نظّم الله إشباع هذه الغرائز والحاجات العضوية، حين نظّم أعمال الإنسان. بالأحكام الشرعية، فبين الشرع الإسلامي الحكم في كل حادثة تحدث للإنسان، وشرع الحلال والحرام، ولهذا ورد الشرع بأوامر ونواه، وكلف الإنسان العمل بما أمر به، واجتناب ما نهى عنه. فإذا خالف ذلك فقد فعل القبيح، أي فعل جريمة، فكان لا بد من عقوبة لهذه الجرائم، حتى يأتمر النّاس بما أمرهم الله به، وينتهوا عما نهاهم عنه، وإلا فلا معنى لتلك الأوامر والنواهي، إذا لم يكن عقاب على مخالفتها. وقد بين الشرع الإسلامي أن على هذه الجرائم عقوبات في الآخرة، وعقوبات في الدنيا. أما عقوبة الآخرة فالله تعالى هو الذي يعاقب بها المجرم، فيعذبه يوم القيامة قال الله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ}[041:055]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ}[036:035]. وقال عز شأنه : {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{34}يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}[034:009-035]. وقال جلّ جلاله: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ{055} {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ}[055:038-056]. ومع أن الله أوعد المذنبين بالعذاب، إلاّ أن أمر المذنبين موكول إليه تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}[048:004]. وتوبتهم مقبولة لعموم الأدلة.

وأما عقوبة الدنيا فيقوم بها الإمام أو نائبه، أي تقوم بها الدولة، بإقامة حدود الله، وتنفيذ أحكام الجنايات والتعزير، وتنفيذ المخالفات. وهذه العقوبة في الدنيا للمذنب على ذنب ارتكبه تسقط عن المذنب عقوبة الآخرة، فتكون العقوبات زواجر وجوابر، أما كونها زواجر فلانها تزجر النّاس عن فعل الذنوب وارتكاب الجرائم، وأما كونها جوابر فلأنها تجبر عقوبة الآخرة. فتسقط عن المسلم عقوبة الآخرة بعقوبة الدولة في الدنيا. والدليل على ذلك ما رواه البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : ” كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال : بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا ولا تزنوا، وقرأ هذه الآية كلها، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه ” . فهذا الحديث صريح في أن عقوبة الدنيا على ذنب معين، وهي عقوبة الدولة للمذنب، تسقط عنه عقوبة الآخرة، ومن أجل ذلك اعترف ( ماعز ) بالزنا فرجم حتى مات، واعترفت الغامدية بالزنا فرجمت حتى ماتت، واعترفت امرأة من جهينة بالزنا فرجمت حتى ماتت، وقال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ” فإن هؤلاء قد اعترفوا ليعاقبوا على الذنب من الدولة في الدنيا حتى تسقط عنهم عقوبة الآخرة، ولذلك تجد الغامدية تقول للرسول : ” يا رسول الله طهرني ” . وقد كان كثير من المسلمين يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقرون بالجرائم التي ارتكبوها ليوقع عليهم الرسول الحد في الدنيا، حتى يسقط عنهم عذاب الله يوم القيامة، فيحتملون آلام الحد والقصاص في الدنيا، لأنّه أهون من عذاب الآخرة. وعليه فالعقوبات زواجر وجوابر.

وهذه العقوبات من الدولة على الذنوب والجرائم هي الطريقة الوحيدة لتنفيذ أوامر الله ونواهيه، فالله تعالى شرع الأحكام، وشرع أحكاماً أخرى لتنفيذها، وهي أحكام العقوبات، فأمر بالمحافظة على المال قال صلى الله عليه وسلم : “لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه” ، وقال : “إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام” وشرع أحكام قطع اليد لتنفيذ أمر الله هذا، ونهى عن الزنا قال تعالى: {ولا تقربوا الزنا}[032:017] وشرع أحكام الجلد والرجم لتنفيذ نهي الله هذا، وهكذا جميع الأوامر والنواهي جعل طريقة تنفيذها العقوبة على عدم التنفيذ من قبل الدولة، ومن هنا كانت طريقة تنفيذ أحكام الشرع عقوبة من لم ينفذها، أي عقوبة من خالفها بعقوبات محددة حددها، أو بجعله للحاكم تقدير عقوبتها.

|

    الأفعال التي يعاقب عليها

الأفعال التي يعاقب عليها هي ترك الفرض، وارتكاب الحرام، ومخالفة ما أصدرته الدولة من أوامر ونواه جازمة، وما عدا هذه الثلاثة فلا يعاقب على أي فعل.  ذلك أن الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال العباد خمسة، هي الفرض وهو الواجب، والمندوب وهو السنة والنافلة، والمباح، والحرام وهو الحظر، والمكروه.  والفرض هو طلب الفعل طلباً جازماً، والمندوب هو طلب الفعل طلباً غير جازم، والمباح هو التخيير بين الفعل والترك، والحرام هو طلب الترك طلباً جازماً، والمكروه هو طلب الترك طلباً غير جازم.  والله سبحانه وتعالى إنما يعاقب على مخالفة طلب الفعل طلباً جازماً وعلى مخالفة طلب الترك طلباً جازماً، أي على مخالفة الأمر الجازم، والنهي الجازم، ولا يعاقب على غير ذلك، فتارك السنة لا عقاب عليه، وفاعل المكروه لا عقاب عليه، والمخيَّر بين الفعل والترك ظاهر ظهور الشمس بأنه لا عقاب عليه إن فعل، ولا عقاب عليه إن ترك، إذ هو مخير أن يفعل وأن يترك ؛ فالله تعالى حين أوعد على مخالفة أوامره ونواهيه إنما أوعد العاصين، فقال : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}[023:072]، وقال : {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}[014:004].  فالوعيد إنما هو للعاصين، وتارك المندوب وفاعل المكروه ليسوا بعصاة، لأنّ الطلب منهم لم يكن جازماً، سواء طلب الفعل، وطلب الترك، وما داموا ليسوا عصاة فلا يعذبون على فعلهم، الذي هو ترك المندوب وفعل المكروه، وترك المباح أو فعله أي أن الله لا يعاقبهم على أفعالهم، وما دام الله لا يعاقبهم فكيف يجوز للدولة أن تعاقبهم ؟!.  إن إيقاع الدولة للعقوبات المقدرة من قبل الشارع أمر لا جدال فيه، وهي كلها عقوبات على فعل حرام أو ترك فرض، وإيقاع الدولة للعقوبات غير المقدرة محددة بالتعزير، والتعزير هو عقوبة غير مقدرة على معصية لا حد فيها ولا كفارة، فهو محصور بالمعاصي، فلا يدخل تحته المندوب، ولا المكروه، ولا المباح، لأنّها ليست من المعاصي.  وأما المخالفات فهي معصية، لأنّ الرسول يقول :  “ومن يعص الأمير فقد عصاني” فتكون عقوبة على معصية، وعليه فإنّه لا توجد عقوبة إلاّ على المعاصي، وما ليس بمعاصي فلا عقوبة عليه.  ومن هنا لا عقوبة على ترك الأفعال المندوبة، ولا على فعل الأفعال المكروهة، ولا على ترك المباح أو فعله، وحتى لو أمر بها أمير المؤمنين، فإن أمره بها لا يجعل القيام بها فرضاً، وتركها حراماً، بل أمره بها هو تبني رأي شرعي من الآراء المتعددة بشأنها، وإلزام النّاس به، وترك غيره هو أمر بالشرع، لا أمر من عنده، فيبقى الأمر أمر الله، ويظل الحكم كما هو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً كما جاء به الشرع.  وبناء على هذا فإن الأفعال التي يعاقب عليها محصورة في فعلين اثنين هما.  ترك الفروض، وفعل المحرمات.

    أنواع العقوبات

العقوبات أربعة أنواع هي :  الحدود، والجنايات، والتعزير، والمخالفات.  أما الحدود فالمراد منها عقوبات المعاصي المقدرة لأجل حق الله.  وسميت حدوداً لأنّها تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حدَّ لأجلها في الغالب، ويطلق الحد على نفس المعصية ومنه قوله تعالى :  {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا}[187:001] كما يطلق على عقوبة تلك المعصية.  وكلمة حد وحدود بمعنى عقوبات المعاصي لا تطلق إلاّ على المعاصي التي فيها حق الله تعالى، ولا تطلق على غيرها، ولا يصح فيها العفو، لا من الحاكم، ولا من الذي اعتدى عليه، لأنّها حق الله، فلا يملك أحد من البشر إسقاطه، ولا بحال من الأحوال.

وأما الجنايات فإنها تطلق على التعدي على البدن، مما يوجب قصاصاً أو مالاً، فتشمل الاعتداء على النفس، والاعتداء على أعضاء الجسم.  والمراد منها هنا العقوبات التي توقع على هذا التعدي.  وهذه العقوبات فيها حق العبد، وما دامت متعلقة بحق العبد فإنّه يجوز لصاحب الحق أن يعفو، وأن يسقط حقه.  قال الله تعالى :  {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}[178:001] بعد قوله :  {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى}[178:001] أي فمن عفا له أخوه في الدين من أولياء الدم عن شيء من حقهم في القصاص، مما يدل على جواز أن يعفو صاحب الحق في الجنايات عن حقه.  وقد وردت أحاديث كثيرة تبين جواز أن يعفوا صاحب الحق.  فعن أبي شريح الخزاعي قال :  سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :  “ من أصيب بدم أو خبل (والخبل الجراح ) فهو بالخيار بين إحدى ثلاث :  إما أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو يعفوا، فإن أراد رابعة فخذوا على يديه “ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  “ ما عفا رجل عن مَظْلِمة إلا زاده الله بها عزاً “ وعن أنس قال :  “ ما رُفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فيه القصاص إلاّ أمر فيه بالعفو “ .  وهذه كلها أدلة على جواز العفو.  وما دامت ليس فيها حق الله تعالى فإن عفو صاحب الحق يستوجب عفو الحاكم، فيعفو الحاكم عن المعتدي عفواً تاماً، بمجرد صدور العفو من صاحب الحق.  ولا يقال إن في هذه الجنايات حق عامة الرعية وهو الأمن، لا يقال ذلك لأنّ وجود حق فيها لعامة المسلمين يحتاج إلى دليل يدل عليه، ولا دليل على ذلك.  ولأنّ المعمول به في عصر الصحابة رضوان الله عليهم أنه كان إذا عفي عن المعتدي من قبل صاحب الحق أسقطت عنه العقوبة.  فقد أخرج الطبراني :  “ أن علياً رضي الله عنه أُتي برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمّة فقامت عليه البينة :  فأمر بقتله، فجاء أخوه فقال :  إني قد عفوت، قال :  فلعلهم هددوك وفرقوك وقرعوك ؟ قال :  لا، ولكن قتله لا يرد علي أخي، وعرضوا لي ورضيت، قال :  أنت أعلم، من كان له ذمتنا فدمه كدمنا، وديته كديتنا “ مما يدل على أن العفو عن المعتدي من قبل صاحب الحق يسقط عنه العقوبة.

وأما التعزير فهو عقوبة على معصية لا حد فيها ولا كفارة.  فالمعصية إذا ارتكبت ينظر فيها، فإن كانت مما قدّر الله لها عقوبة معينة، أي كانت داخلة تحت الحدود، فإنّه يعاقب مرتكبها بالحد الذي شرعه الله ولا تعزير، وكذلك إن جعل لها كفارة معينة فإنّه يجبر مرتكبها على الكفارة.  وأما إن لم تكن داخلة تحت الحدود، ولم يجعل الشارع كفارة لها، فإنها تدخل تحت عقوبة التعزير.  وأما التعدي على البدن فلا تعزير فيه لأنّ عقوباته قد بينها الشارع.

والتعزير يختلف عن الحدود والجنايات فالحدود والجنايات عقوبات مقدرة معينة من الشارع، وهي لازمة ولا يجوز استبدالها ولا الزيادة والنقصان فيها، أما التعزير فهو عقوبة غير مقدرة بعينها، ولا لازمة بعينها.  وأيضاً فإن الحدود والجنايات لا تقبل العفو، ولا الإسقاط من قبل الحاكم إلاّ العفو من صاحب الحق في الجنايات وهذا بخلاف التعزير، فإنّه يقبل العفو والإسقاط.  فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يعزر من قال له :  إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، وعفا عنه، مع أن القائل ارتكب معصية تستحق العقوبة.  ثمّ إن الحدود والجنايات لا تختلف باختلاف النّاس، فجميع النّاس فيها سواء لعموم الأدلة بخلاف التعزير فإنّه يجوز أن يختلف باختلاف النّاس، فتراعى فيه عدم السوابق، وأصحاب السلوك الحسن، وغير ذلك، فقد ورد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  “ أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلاّ الحدود “ والمراد بعثراتهم هنا مخالفتهم لأوامر الله ونواهيه، بدليل قوله “ إلا الحدود “ فهو قرينة على المعنى المراد، وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  “ الأنصار كرشي وعيبتي والناس سيكثرون ويقلون فاقبلوا من محسنهم وتجاوزا عن مسيئهم “ والمراد بالتجاوز العفو، والمسيء يشمل مرتكب المعصية لأنّه مسيء.  فهذا كله يدل على أن التعزير يصح فيه أن يختلف قدر العقوبة باختلاف أحوال النّاس وظروفهم، فيعاقب شخص على معصية بالسجن، ويعاقب شخص آخر على نفس المعصية بالتوبيخ، أو اللوم والتأنيب.

وأما المخالفات فهي العقوبات التي يوقعها الحاكم على من يخالف أوامر السلطان، سواء الخليفة أو غيره من المعاونين والولاة والعمال ونحوهم، ممن عمله من أعمال الحكم، وكانت له صلاحية في إعطاء الأوامر.  فهذه العقوبة على مخالفة الأمر هي عقوبة المخالفة، وكذلك تطلق المخالفة على نفس الفعل الذي خالف فيه أمر الحاكم، فهي تطلق على الفعل وتطلق على عقوبة الفعل.  وإنما جعلت المخالفة عقوبة من العقوبات التي أمر بها الشارع، لأنّ مخالفة أمر الحاكم معصية من المعاصي، فإن الله قد أمر بطاعة أولي الأمر بصريح القرآن.  قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}[059:004] وأمر بطاعة الأمير بصريح الأحاديث، عن أم الحصين الأحمسية أنّها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :  “ اسمعوا وأطيعوا وان أُمِّر عليكم عبدٌ حبشي ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل “ وعن أنس قال :  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  “ اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمِل عليكم عبد حبشي كأنّ رأسه زبيبة “ فهذا دليل على وجوب طاعة الأمير، والياً كان أو عاملاً، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  “ من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني “ وفي رواية أخرى “ ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني “ فهذا صريح بأن مخالفة الحاكم معصية.  ومن هنا كانت عليها عقوبة، وبما أن الشارع لم يعين لها عقوبة معينة فإن للقاضي أن يقدر العقوبة عليها، وللحاكم أن يقدر العقوبة التي يراها على تلك المعصية، ولهذا فإن بعض الفقهاء يدخلون المخالفات في باب التعزير، لأنّها عقوبة على معصية لم يقدرها الشارع، لكن الحق أنها ليست من باب التعزير، لأنّها ليست مخالفة لأمر الله، والتعزير خاص بمخالفة أوامر الله ونواهيه، وهذه ليست كذلك، ولكنها لأنّها مخالفة لأمر الله بطاعة الحاكم، فكانت عقوبة خاصّة يقدرها الحاكم، وبقدر ما تستحق مخالفته من أوامره ونواهيه من عقوبات، وعليه فإن المخالفات خاصّة بمخالفة الأوامر التي يصدرها الحاكم من عنده، لما له من صلاحيات أعطاه إياها الشرع.

وينبغي أن يعلم أن الأوامر التي يصدرها الحاكم من عنده، سواء أكانت من نوع المأمورات، أم من نوع المنهيات محصورة فيما جعل الشرع له أن يدبره برأيه واجتهاده، وذلك كإدارة بيت المال، وكإقامة المدن، وتنظيم الجيوش، وغير ذلك.  فهذه التي جعل الشارع له أن يقوم بها برأيه واجتهاده هي التي له أن يأمر فيها بأشياء، وينهى عن أشياء، وهذه هي التي تعتبر مخالفته فيها معصية.  عملاً بحديث :  “ ومن يعص الأمير فقد عصاني “ وهذه هي التي تدخل تحتها المخالفات، أما غيرها فلا تعتبر من المخالفات، ولو أمر بها أمير المؤمنين.  وذلك أن الخليفة لا يحّل حراماً، ولا يحرّم حلالاً، فلا يحل له أن يجعل المندوب أو المباح واجباً، ولا أن يجعل المكروه حراماً.  فإن فعل ذلك لم تجب طاعته، ولا تعتبر مخالفة أوامره معصية فإذا ألزم النّاس بمباح، أو بمندوب فإنّه يكون قد أوجبه عليهم، وإذا منع النّاس من مكروه فإنّه يكون قد حرمه عليهم، وكذلك لا يجوز له أن يبيح حراماً، أو يحرّم مباحاً، لأنّه يكون قد حرّم الحلال وأحل الحرام. وذلك قد جاء النهي عنه صريحا في القرآن، وجاء عاماً يشمل الخليفة وغيره، وإنما للخليفة أن يأمر وينهى فيما جعل الشرع له أن يقوم به برأيه واجتهاده، وعليه فالمخالفات محصورة في نوع واحد هو الأمور التي للحاكم أن يدبرها برأيه واجتهاده.

هذه هي أنواع العقوبات، ولا يوجد غيرها مطلقاً، وكل ما يصدر من الإنسان من أفعال يستحق عليها العقاب داخلة تحت هذه الأنواع الأربعة، لأنّها إما معاصٍ قد قدر الشرع لها عقوبة، أو معاصٍ لم يقدر لها الشرع عقوبة، وإما اعتداء على بدن، فهذه ثلاثة أفعال، والفعل الرابع هو معصية الحاكم، فهذه أربعة أنواع، وتفصيلاتها تكون في أربعة أبواب.

  

  الحدود

أصل الحدّ ما يحجز بين شيئين فيمنع اختلاطهما، وحدّ الدار ما يميزها، وحدّ الشيء وصفه المحيط به، المميز له عن غيره، وسميت عقوبة الزنا ونحوها حداً لكونها مقدرة من الشرع، وقد تطلق الحدود ويراد بها نفس المعاصي، كقوله تعالى :  {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا}[187:001]وتطلق على شرائع الله ومحارمه.  كقوله تعالى :  {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}[001:065] وحدود الله محارمه.  والحدود اصطلاحاً عقوبة مقدرة شرعاً في معصية، لتمنع من الوقوع في معصية مثلها.  والمعاصي المتفق على أن عقوبتها من الحدود، أي الواجب الحدّ بها ستة هي :  الزنا واللواط، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والردة، والحرابة أي البغاة.  وقد ورد التحذير من جميع هذه الحدود، فقد ورد التحذير من الزنا في القرآن والحديث، قال تعالى :  {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً }[ 032:017]  وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  “ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع النّاس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن “ وورد التحذير من اللواط في القرآن والحديث.  أما القرآن فإن الله قد سمى فيه اللواط فاحشة فقال :  {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ{80}إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ }[080:007-081] وبين عقاب الله لقوم لوط بأنه عاقبهم بالخسف.  قال تعالى :  {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ }[082:011] وقد قص الله علينا ذلك لنتعظ به، وأما الحديث فقد روى محمد بن إسحق عن عمرو بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :  “ ملعون من عمل عمل قوم لوط “ وعن ابن عباس قال :  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  “ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به “ .

  وورد التحذير من القذف في القرآن والحديث.  قال الله تعالى :  {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[023:024] وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  “ اجتنبوا السبع الموبقات “ قيل وما هن يا رسول الله ؟ قال :  “ الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات “ وورد التحذير من الخمر في القرآن والحديث قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{90}إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}[090:005-091] وقد أكد القرآن في هذه الآية تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد :  منها تصدير الجملة بانما، ومنها أنه قرنها بعبادة الأصنام، ومنها أنه جعلها رجساً.  كما قال :  {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}[030:022] ومنها أنه جعلها من عمل الشيطان، لا يأتي منه إلاّ الشر البحت، ومنها أنه أمر بالاجتناب، وجعل الاجتناب من الفلاح، وهو قرينة على أن الأمر بالاجتناب طلب جازم، ومنها أنه ذكر ما ينتج عنها من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب الخمر والميسر، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلاة.  وختم كل ذلك بالنهي نهياً جازماً بصيغة الاستفهام الإنكاري بقوله :  {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} أي انتهوا، وهذا من أبلغ ما ينهى به، كأنه قيل قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم مع هذه الصوارف والموانع منتهون. 

وعن ابن عباس قال :  “ كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف ودوس، فلقيه يوم الفتح براحلة أو راوية من حجر يهديها إليه، فقال :  يا فلان أما علمت أن الله حرّمها ؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال اذهب فبعها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الذي حَرّم شربها حَرّم بيعها، فأمر بها فأفرغت في البطحاء “ وورد التحذير من السرقة في القرآن والحديث.  قال الله تعالى :  {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ}[012:060] وبيعة الرسول على عدم السرقة صريح بتحريم السرقة، وعن أبي هريرة قال :  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  “ لَعَنَ الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده “ والمراد بالبيضة هنا بيضة الحديد، وورد التحذير عن الردة بالقرآن والحديث قال الله تعالى :  {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[217:001] وفي حديث معاذ “ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له :  أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد، وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها “ وورد التحذير من قطع الطرق في القرآن والحديث.  قال الله تعالى :  {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ}[033:005] وعن أنس “ أن ناساً من عِكل وعُرَيْنَة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام فاستوخموا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذَوْدٍ وراعٍ، وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحَرّة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم ، واستاقوا الذَوْد، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في أثرهم، فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وماحسمهم، ثمّ ألقوا في الحَرّة، يستسقون فما سقوا حتى ماتوا “ وورد التحذير من البغي وإشهار السيف في وجه الخليفة.  قال تعالى :  {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[009:049] وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال :  سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :  “ سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم إلى يوم القيامة “ وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  “ من حمل علينا السلاح فليس منا “ فهذه الأدلة من الكتاب والسنة تبين أنه قد ورد التحذير من جميع الحدود، فكان ارتكاب أي منها معصية، وبما أنه قد حدّ الشارع لهذه المعاصي حدوداً، أي عقوبات معينة، لذلك وجب التقيد بهذه الحدود.

ولا يجب الحدّ إلاّ على بالغ عاقل، ملتزم أحكام المسلمين، مسلماً كان أو ذمياً.  ويضرب الرجل قائماً بسوط وسط، لا جديد ولا قديم، ولا يمدّ ولا يجرد المحدود من ثيابه عند جلده، لقول ابن مسعود :  “ ليس في ديننا مدّ، ولا قيد ولا تجريد “ ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد، لأنّ المقصود زجره لا إهلاكه، ولا يرفع الضارب يده بحيث يبدوا إبطه، وسن أن يفرق الضرب على بدنه ويتقى وجوباً الرأس، والوجه، والفرج، والمَقَاتِل كالفؤاد والخصيتين، لأنّه ربما أدى ضربه على شيء من هذا إلى قتله، أو ذهاب منفعته.  والمرأة كالرجل فيما ذكر، إلاّ أنّها تضرب جالسة.  وقد قال علي رضي الله عنه :  “ تضرب المرأة جالسة والرجل قائماً “ .  وأشد الجلد جلد الزنا، ثمّ جلد القذف، ثمّ جلد الشرب، ثمّ جلد التعزير.  لأنّ الله خص الزنا بمزيد تأكيد بقوله تعالى :  {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}[002:024] وما دونه أخف منه في العدد فلا يجوز أن يزيد عليه في الصفة.

والحدود هي:

حد الزنا

حد اللواط

حد القذف

حد شارب الخمر

حد السرقة

حد قطاع الطرق

حد أهل البغي

حد المرتد

    الجنايات

الجنايات جمع جِناية، وهي لغة التعدي على بدن أو مال أو عرض، واصطلاحاً التعدي على البدن مما يوجب قصاصاً أو مالاً.  وأطلقت على العقوبات التي توقع على هذا التعدي، فالجناية تطلق على نفس الجريمة، وتطلق على العقوبة التي توقع على هذه الجريمة، وتطلق على كسر السن، كما تطلق على القتل العمد، وتطلق على الجرح، كما تطلق على القتل شبه العمد وهكذا، فكل واحدة منها يقال لها جناية، وعقوبة كل واحدة منها جناية.

ومن أعظم الجنايات القتل، ومن أعظم الجنايات أيضاً عقوبة القتل.  ومن أبرز الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة تحريم القتل بغير حق.  وتحريم القتل ثابت بالكتاب والسنة.  أما الكتاب فقد قال الله تعالى :  {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً}[033:017] وقال تعالى :  {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً}[092:004] وقال تعالى :  {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }[093:004] فهذه الآيات قطعية الثبوت قطعية الدلالة في تحريم القتل، فهو من الأحكام القطعية.  وأما السنة فعن ابن مسعود قال :  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  “ لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله إلاّ باحدى ثلاث :  الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة “ وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :  “ لا يحلّ قتل مسلم إلاّ في إحدى ثلاث خصال :  زان محصن فيرجم، ورجل يقتل مسلماً متعمداً، ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله عز وجل ورسوله “ فهذا نص في تحريم القتل “ لا يحلّ دم امرئ مسلم “ “ لا يحلّ قتل مسلم “ فالقتل حرام، وحرمته مما هو معلوم من الدين بالضرورة.

   

التعزير

التعزير في اللغة المنع، واصطلاحاً التأديب والتنكيل، وتعريفه الشرعي الذي يستنبط من النصوص التي جاءت عقوبة تعزيرية هو العقوبة المشروعة على معصية لا حد فيها ولا كفارة.  والتعزير قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به.  فعن أنس :  “ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة “ ، وعن الحسن “ أن قوماً اقتتلوا فقُتِل بينهم قتيل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسهم “ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده “ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق ؟ فقال :  من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خُبْنَةً فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثلية والعقوبة، ومن سرق شيئاً منه بعد أن يؤويه الجَرين فبلغ ثمن المِجَن فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثلية والعقوبة “ وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم “ حبس رجلاً في تهمةٍ ساعةً من نهار، ثمّ أخلى سبيله، وأنه حكم بالضرب، وبالسجن “ .  وروي ان عمر قضى بالجلد على من زور كتاباً لبيت المال، ووضع عليه بصمة خاتم اصطنعه على نقش خاتم بيت المال، وقدمه لأمين بيت المال، وأخذ منه مالاً.  وعليه فالتعزير ثابت بالسنة، وقد سار عليه الصحابة من بعد.

والتعزير مشروع لكل ما لم يعين الشارع له عقوبة مقدرة، أما ما أورد الشرع فيه عقوبة فيعاقب مرتكبه بالعقوبة التي قدرها الشارع، فكل ما لم يقدر له الشارع عقوبة ترك للحاكم أن يقدر له عقوبة، وقد أطلق على هذه العقوبة إسم التعزير.

ومن تتبع الجرائم، أي الافعال القبيحة التي قبحها الشرع وهي الذنوب، وتتبع العقوبات التي وردت مقدرة من الشارع، يتبين أن التعدي على البدن قد جعل الشارع له عقوبات مالية، ما عدا القتل العمد فإن عقوبته القتل، إن لم يعف ولي المقتول، وما عداه فعقوبته عقوبة مالية، ما عدا السن في العظام، وما عدا الجراح.  فباقي أنواع القتل عقوبتها عقوبات مالية، والجناية على الأعضاء وفي الشجاج عقوبات مالية، وفي العظام عقوبات مالية، ما عدا السن، وفي الجراح عقوبات بدنية وعقوبات مالية.  وقد جاء الشرع بتقدير هذه العقوبات المالية فقدرها مبالغ معينة، وما لم يقدر لها مبالغ معينة فقد جعل فيها الحكومة.  وعلى ذلك فإن التعزير لا يدخل في التعدي على البدن، ولا محل له في ذلك.  ولا يقال إن التعدي على البدن دون إحداث بتر أو كسر أو جرح أو تلف أو خدش يستحق عقوبة التعزير، لا يقال ذلك لأنّ التعدي على البدن قد جاء الشرع بأحكامه، ولم يأتِ بأحكام لهذه فليس عليها التعزير، إلاّ إن عطلته عن العمل أو الحفت به إهانة.

وأما المعاصي وهي عدم القيام بالفرض، والقيام بفعل الحرام، فانا وجدنا الشارع قد قدر عقوبات معينة لهذه المعاصي، كالسرقة وقطع الطريق، والردة وغيرها مما قدر له الشارع عقوبات معينة، وهذه هي الحدود، ووجدنا أن الشارع لم يقدر عقوبات معينة إلاّ لستة أشياء، أي الحدود، وما عداها لم يقدر لها عقوبات معينة، فهذه التي لم يقدر لها الشارع عقوبات معينة من المعاصي هي التعزير، فالتعزير إنما يأتي فيما هو من جنس الحدود ونوعها مما لم يرد له عقوبة مقدرة، ولا يأتي للتعدي على البدن.

وتقدر عقوبة التعزير على قدر الجريمة، فالجريمة الكبيرة تقدر لها عقوبة كبيرة، حتى يتحقق معنى العقوبة وهو الزجر، والجريمة الصغيرة تقدر لها عقوبة تزجر عن مثلها، ولا تقدر أكثر من ذلك، حتى لا تكون ظلماً للمذنب.  وهل يطلق تقدير العقوبة لصاحب الصلاحية، أي للخليفة أو القاضي فيقدرها بما يراه يزجر، أم أنه مقيد بما لا يزيد عن الحد ؟ لقد ذكر بعض الفقهاء بأن التعزير لا يصح أن يزيد عن الحد، فقالوا :  يشترط أن لا يبلغ التعزير مقدار الحد الذي وجب في نوع المعصية، واستدلوا على ذلك بما روي عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :  “ ومن بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين “ وقالوا إن العقوبة على قدر الاجرام والمعصية، والمعاصي المنصوص على حدودها اعظم من غيرها، فلا يجوز أن يبلغ في أهون الامرين أعظمها.  وقال مالك يجوز أن يزاد التعزير على الحد، إذا رأى الإمام، لما روي أن معن بن زائدة عمل خاتماً على نقش خاتم بيت المال، ثمّ جاء به صاحب بيت المال فأخذ مالاً، فبلغ عمر رضي الله عنه فضربه مائة وحبسه، فكلم فيه فضربه مائة أخرى، فكلم فيه من بعد فضربه مائة ونفاه، وروى أحمد باسناده أن علياً أُتِيَ بالنجاشي قد شرب خمراً في رمضان فجلده ثمانين الحد، وعشرين سوطاً لفطره في رمضان، وأكثر الفقهاء على أن التعزير لا يصح أن يزيد على مقدار الحد.

غير أنه بامعان النظر يتبين أن الشرع قد جعل تقدير عقوبة التعزير للخليفة، أو الامير أو القاضي مطلقاً، يرجع فيه إلى اجتهاده فيما يراه، وما يقتضيه حال الشخص وما يستوجبه واقع الجريمة، وواقع وضعها في البلد.  فهو متروك للاجتهاد فتقييد الاجتهاد بحد أعلى أو بحد أدنى هو تحديد، فيجعله حداً وهو ينافي كونه تعزيراً، وينافي تركه لاجتهاده، وأيضاً فإن بعض الجرائم غير الحدود قد تكون أفظع من الحد، فمثلاً الادمان على المخدرات كالحشيش والأفيون أفظع من شرب الخمر، وسرقة مبالغ ضخمة من بيت المال أفظع من سرقة متاع ثمنه ربع دينار من رجل من النّاس وهكذا، ثمّ إن هناك جرائم يمكن أن تؤدي إلى تمزيق وحدة الأمّة، كالدعوة إلى القومية، أو إلى الاقليمية أو ما شاكل ذلك.  لهذا فإن القول الحق أن لا يقدر التعزير بحد أعلى ولا بحد أدنى، بل يترك لاجتهاد الخليفة، أو الامير ثمّ لاجتهاد القاضي.

وأما حديث “ ومن بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين “ فإنّه يحمل على نوع العقوبة التي عاقب بها لا يصح أن تزيد عما قدره الشرع من العقوبة بها، أما أن يزيد بعقوبة من غيرها فلا يمنع ذلك الحديث، فمن بلغ في عقوبة القبلة حد الزنا فهو من المعتدين، أي إذا جلد عليها مائة جلده فهو من المعتدين، ولكن إذا جلد عليها تسعين جلده، مع حبس ثلاث سنوات، ونفي سنة، فإن هذه الزيادة من غير الحد لا يمنعها الحديث.  فمثلاً لو أن رجلاً أتى من أمه أو ابنته أو أخته أو أحد محارمه جميع ما يأتي الرجل من امرأته من قبل ومداعبة ومفاخذة وغير ذلك إلاّ أنه لم يجامعها، فهل مثل هذا الرجل لا يبلغ القاضي في عقوبته حد الزنا ؟ أم أنه يجلده دون حد الزنا، ويوقع به عقوبات أخرى كالحبس والنفي والغرامة وغير ذلك، ومثلاً لو أن شخصاً مدمناً على الافيون وقد عوقب أكثر من مرة ولم ينزجر، فهل مثل هذا الرجل لا يبلغ القاضي في عقوبته حد شارب الخمر ؟ أم أنه يجلده دون حد الشرب ويوقع به عقوبات أخرى كالكي بالنار، والحبس والنفي وغير ذلك ؟

إن الحديث ينهى عن بلوغ الحد، في غير الحد، والحد عقوبة معينة في جريمة معينة، فهذه العقوبة المعينة لا يتجاوزها، ولكن أن يوقع غيرها فإنّه غير داخل في النهي فيبقى لاجتهاد القاضي.

هذا ما يفهم من الحديث بأنه ينهى عن تجاوز العقوبة المعينة، ولا يشمل نهيه عدم إيقاع غيرها من العقوبات، وقال الشوكاني :  ( ذكر بعض المتأخرين أن الحديث محمول على التأديب الصادر من غير الولاة، كالسيد يضرب عبده، والزوج يضرب زوجته والأب يضرب ولده ) ولكن تعبير الحديث بلفظ “ مَنْ “ بقوله :  “ مَنْ بلغ حدّاً “ وهي من ألفاظ العموم ولم يرد ما يخصصه بغير الوالي يمنع هذا التأويل، ولكن تفسير الحديث بأن المراد منه من بلغ حداً في عقوبة معينة في غير ما وضعت له فهو معتد، أما لو أوقع عدة عقوبات، ولم يبلغ فيها جميعها الحد فإنّه لا ينطبق عليه أنه من المعتدين.

وتقدير عقوبة التعزير الاصل فيه أنه للخليفة، ولكن يجوز أن يجعله لاجتهاد القاضي، ويجوز أن يمنع القاضي من تقديرها، ويقدرها له، فإن القاضي نائب عن الخليفة، والقضاء يتخصص بالزمان والمكان والحادثة، فيجوز أن يخصصه ببعض القضايا، فيمنعه من تقدير العقوبة في التعزير مطلقاً، أو يمنعه من تقديرها في بعض القضايا، ويعطيها له في بعضها الآخر، ومهما يكن من أمر فإن عقوبة التعزير حين تقدر لا تخرج عن واحد من الأحكام الشرعية، ذلك أن الفعل إما أن يكون فرضاً، وإما أن يكون مندوباً، وإما أن يكون مباحاً، أو يكون حراماً، أو مكروهاً، ولا يخرج عن واحد من هذه الخمسة.  إلاّ أن المباح هو تخيير للمكلف بأن يفعل الفعل أو يتركه، ولذلك لا يكون فاعله مخالفاً لأوامر الله ونواهيه، بل يكون في حالة فعله أو حالة تركه متبعاً لأوامر الله ونواهيه، وفي اختيار ما خيره الشرع فيه، أما المندوب والمكروه فإن الله تعالى لم يرتب عليهما عقوبة، فلم يرتب عقوبة على ترك المندوب، ولا على فعل المكروه، فلا يصح للدولة أن ترتب عليهما عقوبة، لأنّ ترتيب العقوبة يعني الالزام بفعل المندوب، وهذا يعني جعله فرضاً، والالزام بترك المكروه، وهذا يعني جعله حراماً، والدولة لا يحل لها أن تجعل المندوب فرضاً، والمكروه حراماً، ولذلك لا يحل لها أن تضع عقوبات تعزيرية على ترك المندوب، وفعل المكروه، ولذلك لا تدخل المباحات، والمندوبات، والمكروهات في أبحاث العقوبات.

بقي من الأبحاث ترك الفرض، وفعل المحرّم.  أما ترك الفرض فلأن الله رتب عقوبة عليه، فتارك الصلاة، والممتنع عن صيام رمضان، أو عن الزكاة، أو عن أداء حق لآدمي، وما شاكل ذلك كلها ترك للفرض.  وقد أوعد الله تارك هذه الفروض بالعذاب.  وأما فعل المحرّم فلأن الله رتب كذلك عقوبة عليه، فقاذف غيره بغير الزنا، وكانز المال، والمختلس، والجاسوس، وما شاكلها كلها فعل المحرّم، وقد أوعد الله فاعل هذه المحرمات بالعذاب، فلا كلام في أن على الحاكم أن يقدر عليها عقوبات التعزير، لأنّها كلها معاص، إذ ترك الفرض، وفعل المحرم، كل منهما معصية تجب العقوبة عليها.  ومن هذا كله يتبين أن الخليفة حين يرتب عقوبات معينة من عقوبات التعزير يجب أن يتقيد بما رتب الله عليه عقوبة فحسب، ولا يصح أن يتجاوز ذلك، فيجب أن تحصر عقوبة التعزير بترك الفرض، وفعل المحرم، ولا يجوز أن يتعدى ذلك مطلقاً.  وأما ما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم من أنهم عاقبوا على ترك بعض المندوبات، وعلى فعل بعض المكروهات، فإن ذلك لا يصلح دليلاً إلاّ إذا كان إجماعاً ولم يرو الاجماع في ذلك.

وكما أنه لا يجوز أن يعزر على فعل المكروه، وترك المندوب أو المباح كذلك لا يجوز أن توضع عقوبة التعزير بحجة رعاية الشؤون، أو باسم المصلحة فإن رعاية الشؤون محصورة فيما جعل للامام أن يدبره برأيه واجتهاده، كتخطيط المدن، وكترتيب الموازين وهكذا… وما عدا ذلك فلا حق له، وأما المصلحة فليست دليلاً شرعياً فلا ترتب عقوبة بناء عليها.

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة