طريقة نصب الخليفة

 

طريقة نصب الخليفة

حين أوجب الشرع على الأمة نصب خليفة عليها، حدد لها الطريقة التي يجري بها نصب الخليفة، وهذه الطريقة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة. وتلك الطريقة هي البيعة. فيجري نصب الخليفة ببيعة المسلمين له على كتاب الله وسنة رسوله. أما كون هذه الطريقة هي البيعة فهي ثابتة من بيعة المسلمين للرسول، ومن أمر الرسول لنا ببيعة الإمام. أما بيعة المسلمين للرسول فإنها ليست بيعة على النبوة وإنما هي بيعة على الحكم، إذ هي بيعة على العمل وليست بيعة على التصديق. فبويع صلى الله عليه وسلم على اعتباره حاكماً لا على اعتباره نبياً ورسولاً. لأن الإقرار بالنبوة والرسالة إيمان وليس بيعة، فلم تبق إلاّ أن تكون البيعة له باعتباره رئيس الدولة. وقد وردت البيعة في القرآن والحديث قال تعالى :(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيَهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فيِ مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ) وقال تعالى :(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ). وروى البخاري قال: حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن يحيى بن سعيد قال أخبرني عبادة بن الوليد أخبرني أبي عن عبادة بن الصامت قال : «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنّا لا نخاف في الله لومة لائم» وروى البخاري قال: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا سعيد هو ابن أبي أيوب قال حدثني أبو عَقيل زهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام وكان قد أدرك النبيصلى الله عليه وسلم وذهبت به أمه زينب ابنة حُميد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله بايعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «هو صغير. فمسح رأسه ودعا له» وروى البخاري قال: حدثنا عبدانُ عن أبي حمزة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنياه إن أعطاه ما يريد وفى له وإلا لم يف له، ورجل يبايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا فصدقه فأخذها ولم يُعط بها» . فهذه الأحاديث الثلاثة صريحة في أن البيعة طريقة نصب الخليفة. فحديث عبادة قد بايع الرسول على السمع والطاعة وهذا للحاكم، وحديث عبد الله بن هشام رفض بيعته لأنه غير بالغ مما يدل على أنها بيعة حكم، وحديث أبي هريرة صريح ببيعة الإمام، وجاءت كلمة إمام نكرة أي أيّ إمام. وهناك أحاديث أخرى تنص على بيعة الإمام. ففي مسلم من طريق عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» وفي مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» وروى مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول» . فالنصوص صريحة من الكتاب والسنة بأن طريقة نصب الخليفة هي البيعة. وقد فهم ذلك جميع الصحابة وساروا عليه. فأبو بكر بويع بيعة خاصة في السقيفة وبيعة عامة في المسجد ثم بايعه من لم يبايع في المسجد ممن يعتد ببيعته كعلي بن أبي طالب y ، وعمر بويع بيعة من المسلمين، وعثمان بويع بيعة من المسلمين، وعلي بويع بيعة من المسلمين. فالبيعة هي الطريقة الوحيدة لنصب خليفة للمسلمين.

أما التفصيلات العملية لإجراء هذه البيعة، فإنها ظاهرة في نصب الخلفاء الأربعة الذين جاءوا عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم، وقد سكت عنها جميع الصحابة وأقروها مع أنها مما ينكر لو كانت مخالفة للشرع، لأنها تتعلق بأهم شيء يتوقف عليه كيان المسلمين، وبقاء الحكم بالإسلام. ومن تتبع ما يحصل في نصب هؤلاء الخلفاء نجد أن بعض المسلمين قد تناقشوا في سقيفة بني ساعدة وكان المرشحون سعداً وأبا عبيدة وعمر وأبا بكر ليس غير، وبنتيجة المناقشة بويع أبو بكر. ثم في اليوم الثاني دعي المسلمون إلى المسجد فبايعوه، وبهذه البيعة الأخيرة صار خليفة للمسلمين. وحين أحس أبو بكر بأن مرضه مرض موت دعا المسلمين يستشيرهم فيمن يكون خليفة للمسلمين. وكان الرأي في هذه الاستشارات يدور حول علي وعمر ليس غير، ومكث مدة ثلاثة أشهر في هذه الاستشارات. ولما أتمها وعرف أكثر رأي المسلمين أعلن لهم أن عمر هو الخليفة بعده، وعقب وفاته مباشرة حضر المسلمون إلى المسجد وبايعوا عمر بالخلافة، فصار بهذه البيعة خليفة للمسلمين وليس بالاستشارات ولا بإعلان أبي بكر. وحين طُعن عمر طلب منه المسلمون أن يستخلف فأبى، فألحوا عليه فجعلها في ستة، ثم بعد وفاته أناب المرشحون أحدهم وهو عبد الرحمن بن عوف فرجع لرأي المسلمين واستشارهم، ثم أعلن بيعة عثمان، فقام المسلمون فبايعوا عثمان فصار خليفة ببيعة المسلمين لا باستخلاف عمر ولا بإعلان عبد الرحمن ثم قتل عثمان، فبايع جمهرة المسلمين في المدينة والكوفة علي بن أبي طالب فصار خليفة ببيعة المسلمين.

ومن ذلك يتبين أن التفصيلات العملية لإجراء البيعة للخلافة هي أن يتناقش المسلمون فيمن يصلح للخلافة، حتى إذا استقر الرأي على أشخاص، عُرضوا على المسلمين، فمن اختاروه منهم طلب منهم أن يبايعوه كما طلب من باقي المرشحين أن يبايعوه. ففي سقيفة بني ساعدة صار النقاش في سعد وأبي عبيدة وعمر وأبي بكر ثم بويع أبو بكر، فكانت بيعته بمثابة اختيار، ولكنها لم تلزم المسلمين، ثم جرت بيعته من عامة المسلمين.

وأبو بكر تذاكر مع المسلمين في علي ثم أعلن اسم عمر ثم بويع، وعمر جعلها في ستة، وبعد الرجوع إلى المسلمين أعلن عبد الرحمن اسم عثمان، ثم بويع. وعلي بويع مباشرة فقد كان الوضع وضع فتنة، وكان معروفاً أنه لا يدانيه في الترشيح للخلافة عند المسلمين أحد حين قتل عثمان. وبذلك يكون أمر البيعة جارياً على أن يحصر المرشحون للخلافة بعد المناقشة فيمن يصلح لها، ثم يجري انتخاب خليفة منهم، ثم تؤخذ له البيعة على الناس. ولئن كان هذا واضحاً في استشارات أبي يكر فإنه يظهر أوضح في بيعة عثمان. روى البخاري عن الزهري أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن المِسْوَر بن مَخْرمَة أخبره أن الرهط الذين ولاّهم عمر اجتمعوا فتشاوروا. قال لهم عبد الرحمن: ” لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، فلما ولّوا عبد الرحمن أمرهم فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه. ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان. قال المسور: “طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت فقال: أراك نائماً، فوا لله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم، انطلق فادع الزبير وسعداً، فدعوتهما له فشاروهما ثم دعاني فقال: ادع لي عليّاً فدعوته فناجاه حتى إبهارَّ الليَّل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً، ثم قال: ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح. فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهّد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا، ثم أخذ بيد عثمان فقال أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون “.

فالمرشحون للخلافة حُصروا في الرهط الذين سماهم عمر بعد أن طلب إليه المسلمون ذلك، وعبد الرحمن بن عوف بعد أن أخرج نفسه من الترشيح للخلافة أخذ رأي المسلمين فيمن يكون خليفة، ثم أعلن اسم الذي يريده المسلمون بعد أن شاور الناس. وبعد إعلان اسم من يريده الناس كانت البيعة له، فصار خليفة بهذه البيعة. وعلى ذلك فالحكم الشرعي في نصب الخليفة هو أن يحصر المرشحون للخلافة من قبل من يمثلون رأي جمهرة المسلمين، ثم تعرض أسماؤهم على المسلمين ويطلب منهم أن يختاروا واحداً من هؤلاء المرشحين ليكون خليفة لهم، ثم ينظر من تكون جمهرة المسلمين أي أكثريتهم بجانبه، فتؤخذ له البيعة على المسلمين جميعاً، سواء من اختاره أو من لم يختره، لأن إجماع المسلمين إجماعاً سكوتياً على حصر عمر للمرشحين للخلافة في ستة أشخاص معينين، وإجماع المسلمين أيضاً على أخذ عبد الرحمن لرأي المسلمين جميعاً فيمن يكون خليفة عليهم، ثم إجماعهم على إجراء البيعة لمن أعلن عبد الرحمن اسمه بأنه هو الذي اختاره المسلمون خليفة لهم حين قال ” إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان ” كل ذلك صريح في الحكم الشرعي في نصب الخليفة.

بقيت مسألتان، إحداهما من هم المسلمون الذين ينصبون الخليفة ؟ هل هم أهل الحل والعقد أم هم عدد معين من المسلمين ؟ أم هم جميع المسلمين ؟ والمسألة الثانية هي: هل الأعمال التي تجري في هذا العصر في الانتخابات كالاقتراع السري وصناديق الاقتراع وفرز الأصوات، هي ما يأمر به الإسلام أم لا ؟

أما المسألة الأولى: فإن الشارع قد جعل السلطان للأمة وجعل نصب الخليفة للمسلمين عامة، ولم يجعله لفئة دون فئة، ولا لجماعة دون جماعة، فالبيعة فرض على المسلمين عامة «من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية» وهذا عام لكل مسلم. ولذلك ليس أهل الحل والعقد هم أصحاب الحق في نصب الخليفة دون باقي المسلمين. وكذلك ليس أصحاب الحق أشخاصاً معينين، وإنما هذا الحق لجميع المسلمين دون استثناء أحد، حتى الفجار والمنافقين ما داموا مسلمين بالغين، لأن النصوص جاءت عامة ولم يرد ما يخصصها سوى رفض بيعة الصغير الذي لم يبلغ، فتبقى عامة.

إلا أنه ليس شرطاً أن يباشر جميع المسلمين هذا الحق، لأنه حق لهم، وهو وإن كان فرضاً عليهم، لأن البيعة فرض، ولكنه فرض على الكفاية وليس فرض عين، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين. إلا أنه يجب أن يمكّن جميع المسلمين من مباشرة حقهم في نصب الخليفة، بغض النظر عما إذا استعملوا هذا الحق أم لم يستعملوه، أي يجب أن يكون في قدرة كل مسلم التمكن من القيام بنصب الخليفة بتمكينه من ذلك تمكيناً تاماً. فالقضية هي تمكين المسلمين من القيام بما فرضه الله عليهم من نصب الخليفة قياماً يسقط عنهم هذا الفرض، وليست المسألة قيام جميع المسلمين بهذا الفرض بالفعل. لأن الفرض الذي فرضه الله هو أن يجري نصب الخليفة من المسلمين برضاهم، لا أن يجريه جميع المسلمين. ويتفرع على هذا أمران: أحدهما أن يتحقق رضا جميع المسلمين بنصبه، والثاني أن لا يتحقق رضا جميع المسلمين بهذا النصب مع تحقق التمكين لهم في كلا الأمرين.

أما بالنسبة للأمر الأول فلا يشترط عدد معين فيمن يقومون بنصب الخليفة، بل أي عدد بايع الخليفة وتحقق في هذه البيعة رضا المسلمين بسكوتهم، أو بإقبالهم على طاعته بناء على بيعته، أو بأي شيء يدل على رضاهم، يكون الخليفة المنصوب خليفة للمسلمين جميعاً، ويكون هو الخليفة شرعاً ولو قام بنصبه خمسة أشخاص إذ يتحقق فيهم الجمع في إجراء نصب الخليفة، ويتحقق الرضا بالسكوت والمبادرة للطاعة، أو ما شاكل ذلك، على شرط أن يتم هذا بمنتهى الاختيار والتمكين من إبداء الرأي تمكيناً تاماً. أما إذا لم يتحقق رضا جميع المسلمين، فإنه لا يتم نصب الخليفة إلاّ إذا قام بنصبه جماعة يتحقق في نصبهم له رضا جمهرة المسلمين، أي أكثريتهم، مهما كان عدد هذه الجماعة. ومن هنا جاء قول بعض الفقهاء: يجري نصب الخليفة ببيعة أهل الحل والعقد له – إذ يعتبرون أهل الحل والعقد الجماعة التي يتحقق رضا المسلمين بما تقوم به من بيعة أي رجل حائز على شروط انعقاد الخلافة – وعلى ذلك فليس بيعة أهل الحل والعقد هي التي يجري فيها نصب الخليفة، وليس وجود بيعتهم شرطاً لجعل نصب الخليفة نصباً شرعياً، بل بيعة أهل الحل والعقد أمارة من الأمارات الدالة على تحقق رضا المسلمين بهذه البيعة، لأن أهل الحل والعقد كانوا يعتبرون الممثلين للمسلمين. وكل أمارة تدل على تحقق رضا المسلمين ببيعة خليفة يتم بها نصب الخليفة، ويكون نصبه بها نصباً شرعياً.

وعلى ذلك فالحكم الشرعي هو أن يقوم بنصب الخليفة جمع يتحقق في نصبهم له رضا المسلمين بأي أمارة من أمارات التحقق، سواء أكان ذلك بكون المبايعين أكثر أهل الحل والعقد، أو بكونهم أكثر الممثلين للمسلمين، أو كان بسكوت المسلمين عن بيعتهم له، أو مسارعتهم بالطاعة بناء على هذه البيعة، أو بأي وسيلة من الوسائل، ما دام متوفراً لهم التمكين التام من إبداء رأيهم. وليس من الحكم الشرعي كونهم أهل الحل والعقد ولا كونهم أربعة أو أربعمائة أو أكثر أو أقل، أو كونهم أهل العاصمة أو أهل الأقاليم. بل الحكم الشرعي كون بيعتهم يتحقق فيها الرضا من قبل جمهرة المسلمين بأية أمارة من الأمارات، مع تمكينهم من إبداء رأيهم تمكيناً تاماً.

والمراد بجميع المسلمين، المسلمون الذين يعيشون في البلاد الخاضعة للدولة الإسلامية، أي الذين كانوا رعايا للخليفة السابق إن كانت الخلافة قائمة، أو الذين يتم بهم قيام الدولة الإسلامية وتنعقد الخلافة بهم إن كانت الدولة الإسلامية غير قائمة من قبلهم، وقاموا هم بإيجادها واستئناف الحياة الإسلامية بواسطتها. أما غيرهم من المسلمين فلا تشترط بيعتهم ولا يشترط رضاهم. لأنهم إما أن يكونوا خارجين على سلطان الإسلام، أو يكونوا يعيشون في دار كفر ولا يتمكنون من الانضمام إلى دار الإسلام. وكلاهما لا حق له في بيعة الانعقاد، وإنما عليه بيعة الطاعة، لأن الخارجين على سلطان الإسلام حكمهم حكم البغاة. والذين في دار الكفر لا يتحقق بهم قيام سلطان الإسلام حتى يقيموه بالفعل، أو يدخلوا فيه. وعلى ذلك فالمسلمون الذين لهم حق بيعة الانعقاد، ويشترط تحقق رضاهم حتى يكون نصب الخليفة نصباً شرعياً، هم الذين يقوم بهم سلطان الإسلام بالفعل. ولا يقال هذا الكلام بحث عقلي، وليس هنالك دليل شرعي عليه. لا يقال ذلك لأنه بحث في مناط الحكم وليس في نفس الحكم، ولهذا لا يؤتى له بدليل شرعي وإنما هو ببيان حقيقته. فأكل الميتة حرام، هو الحكم الشرعي. وتحقيق ما هي الميتة هو مناط الحكم، أي الموضوع الذي يتعلق به الحكم. فقيام المسلمين بنصب الخليفة هو الحكم الشرعي، وأن يكون هذا النصب بالرضا والاختيار هو الحكم الشرعي أيضاً، وهذا هو الذي يؤتى له بالدليل. أما من هم المسلمون الذين يتم بهم النصب، وما هو الأمر الذي يتحقق فيه الرضا والاختيار، فذلك مناط الحكم أي الموضوع الذي جاء الحكم لمعالجته، وانطباق الحكم الشرعي عليه هو الذي يجعل الحكم الشرعي فيه متحققاً. وعليه يبحث هذا الشيء الذي جاء الحكم الشرعي له ببيان حقيقته.

ولا يقال إن مناط الحكم هو علة الحكم فلا بد له من دليل شرعي، لا يقال ذلك لأن مناط الحكم غير علة الحكم، وهنالك فرق كبير بين العلة والمناط. فالعلة هي الباعث على الحكم أي هي الشيء الدال على مقصود الشارع من الحكم، وهذه لا بد لها من دليل شرعي عليها حتى يفهم أنها هي مقصود الشارع من الحكم، أما مناط الحكم فهو الموضوع الذي جاء به الحكم أي هو المسألة التي ينطبق عليها الحكم وليس دليله ولا علته. ومعنى كونه الشيء الذي نيط به الحكم هو أنه الشيء الذي عُلّق به الحكم أي أنه قد جيء بالحكم له أي لمعالجته لا أنه جيء بالحكم لأجله حتى يقال إنه علة الحكم. فمناط الحكم هو الناحية غير النقلية في الحكم الشرعي. وتحقيقه غير تحقيق العلة فإن تحقيق العلة يرجع إلى فهم النص الذي جاء معللاً وهذا فهم للنقليات وليس هو المناط، بل المناط هو ما سوى النقليات والمراد به الواقع الذي يطبق عليه الحكم الشرعي. فإذا قلت الخمر حرام فإن الحكم الشرعي هو حرمة الخمر. فتحقيق كون الشراب المعين خمراً أو ليس بخمر ليتأتى الحكم عليه بأنه حرام أو ليس بحرام هو تحقيق المناط، فلا بد من النظر في كون الشراب خمراً أو غير خمر حتى يقال عنه إنه حرام، وهذا النظر في حقيقة الخمر هو تحقيق المناط. وإذا قلت الماء الذي يجوز الوضوء منه هو الماء المطلق، فإن الحكم الشرعي هو كون الماء المطلق هو الذي يجوز منه الوضوء. فتحقيق كون الماء مطلقاً أو غير مطلق ليتأتى الحكم عليه بأنه يجوز الوضوء منه هو تحقيق المناط، فلا بد من النظر في كون الماء مطلقاً أو غير مطلق حتى يقال أنه يجوز الوضوء منه، وهذا النظر في حقيقة الماء هو تحقيق المناط. وإذا قلت إنّ المحدث يجب عليه الوضوء للصلاة، فتحقيق كون الشخص محدثاً أو ليس بمحدث هو تحقيق المناط وهكذا. وقد قال الشاطبي في الموافقات ” فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة ” وقال ” قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع كما أنه لا يفتقر إلى معرفة علم العربية لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلاّ به من حيث قصدت المعرفة به فلا بد أن يكون المجتهد عارفاً ومجتهداً من تلك الجهة التي ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى”.

فإن تحقيق العلة يرجع إلى فهم النص الذي جاء معللاً وهذا فهم النقليات وليس هو المناط بل المناط هو ما سوى النقليات والمراد به الواقع الذي يطبق عليه الحكم الشرعي، فإذا قلت الخمر حرام فتحقيق كون الشيء خمراً أو ليس بخمر هو تحقيق المناط. وإذا قلت الماء المطلق هو الذي يتوضأ منه كان تحقيق كون الماء مطلقاً أو غير مطلق هو تحقيق المناط، وإذا قيل إنّ المحدث يجب عليه الوضوء كان تحقيق كون الشخص محدثاً أو ليس بمحدث هو تحقيق المناط. فتحقيق المناط هو تحقيق الشيء الذي هو موضوع الحكم، ولذلك لا يشترط فيمن يحقق المناط أن يكون مجتهداً أو مسلماً بل يكفي أن يكون عالماً بالشيء. ومن هنا كان البحث فيمن هم المسلمون الذين تكون بيعتهم دالة على الرضا هو بحث في تحقيق المناط.

هذا من ناحية المسألة الأولى. أما المسألة الثانية وهي ما يحصل في هذه الأيام من إجراء الانتخابات بالاقتراع السري، واتخاذ صناديق اقتراع، وفرز الأصوات وما شاكل ذلك، فإن هذا كله أساليب لأداء الاختيار بالرضى. ولذلك لا تدخل تحت الحكم الشرعي، ولا في مناط الحكم الشرعي الذي هو الموضوع الذي جاء الحكم لمعالجته لأنها ليست من أفعال العباد، ولا هي محل انطباق الحكم الشرعي عليها، وإنما هي وسائل لفعل العبد الذي جاء الحكم الشرعي له، أي الذي جاء خطاب الشارع متعلقاً به، ألا وهو نصب الخليفة بالرضا في حالة من التمكين التام من إبداء الرأي. وعليه ليست هذه الأساليب والوسائل مما يبحث فيه عن الأحكام الشرعية، وهي تدخل في الأشياء التي جاء النص عاماً بإباحتها، ولم يرد دليل خاص بحرمتها، فتبقى مباحة. فللمسلمين أن يختاروا هذه الأساليب، ولهم أن يختاروا غيرها. فأي أسلوب يؤدي إلى تمكين المسلمين من القيام بفرض نصب الخليفة بالرضا والاختيار، يجوز للمسلمين أن يستعملوه ما لم يرد دليل شرعي على تحريمه. ولا يقال إن هذا الأسلوب فعل العبد فلا يجري إلا وفق حكم شرعي فلا بد من دليل يدل على حكمه، لا يقال ذلك لأن فعل العبد الذي يجب أن يجري وفق الحكم الشرعي ولا بد من دليل يدل على حكمه إنما هو الفعل الذي يعتبر أصلاً أو يعتبر فرعاً لفعل لم يأت دليل عام لأصله وإنما جاء دليل أصله خاصاً. وذلك مثل الصلاة فإن دليلها خاص بالقيام بها ولا يشمل كل فعل من أفعالها. أما الفعل الذي هو فرع لفعل ورد دليل عام لأصله فإنه ينجر الدليل العام على جميع فروعه، ويحتاج تحريم الفعل الذي هو فرع إلى دليل يحرمه حتى يخرج عن حكم أصله ويأخذ حكماً جديداً، وهكذا جميع الأساليب.

وفي مسألة الانتخابات هذه، الفعل الأصل هو نصب الخليفة بالرضا والاختيار. أما الأفعال التي تتفرع عن ذلك من مثل الاقتراع واتخاذ صناديق الاقتراع وفرز الأصوات وما شاكل ذلك فإنها تدخل تحت حكم الأصل ولا تحتاج إلى دليل آخر، وإخراجها عن حكم الأصل أي تحريمها هو الذي يحتاج إلى دليل. وهكذا جميع الأساليب التي هي أفعال العباد. أما الوسائل وهي الأدوات مثل الصندوق الذي توضع فيه الأوراق فإنها تأخذ الحكم الذي أخذته الأشياء لا الأفعال وتنطبق عليها قاعدة ” الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم “. والفرق بين الطريقة والأسلوب هو أن الطريقة هي الفعل الذي يعتبر أصلاً من حيث هو، أو فرعاً لأصل لم يأت دليل عام لأصله بل كان دليله خاصاً به. أما الأسلوب فهو الفعل الذي يكون فرعاً لفعل قد جاء له ـ أي للأصل ـ دليل عام. ومن هنا كان لا بد أن تكون الطريقة مستندة إلى دليل شرعي لأنها حكم شرعي، ولذلك يجب أن تلتزم ولا يخير فيها المسلم ما لم يكن حكمها الإباحة، بخلاف الأسلوب فإنه لا يستند إلى دليل شرعي بل يجري عليه حكم أصله. ولذلك لا يجب التزام أسلوب معين ولو فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل كل أسلوب للمسلم أن يفعله ما دام يؤدي إلى القيام بالعمل، فيصبح فرعاً له. ولذلك قيل إن الأسلوب يعينه نوع العمل.

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة