هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟ – القسم الثاني: المقدمة

 

هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

(الحلقة الأولى – القسم الثاني: المقدمة)

للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنـا

 

ثانيا: سنسجل ابتداء مدى اندهاشنا من قول الدكتور المطيري أن الصحابة اجتهدوا في طريقة إقامة الدولة، حيث أن الدولة كانت قائمة غير مفقودة؟ فقد أقامها الرسول ﷺ وأرسى أركانها وحدد وظائفها ومهمتها وبدأ بتطبيق الأنظمة المناسبة فيها من أنظمة اقتصادية واجتماعية وعقوبات وغيرها؛ والفرق واضح بين ما فعله الصحابة من اختيار الخليفة وبيعته، لتطبيق النظام القائم، ونقاشاتهم في هذا الصدد، وبين واقع العمل على إقامة النظام ابتداء، وتغيير المجتمع الكافر في مكة ومن ثم في المدينة، إلى مجتمع إسلامي، وتغيير نظام الحكم في المدينة إلى النظام الإسلامي عبر إقامة الدولة! هذا الخلط نلاحظه في مواطن كثيرة من مقالة الدكتور المطيري،

وينبغي التذكير بقَوْله تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ 26 ص، وذلك تناسبا مع كون الله ﷻ وتبارك وتعالى قد أنزل الكتب بِالْحَقِّ لتحكم بين الناس فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ،﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ الحديد 25، فاستخلاف داود ﷺ وحكمه بين الناس بالحق كاستخلاف محمد ﷺ وحكمه بين الناس بالحق، وكل الشرائع نزلت ليقوم الناس بالقسط والعدل، ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ 49 المائدة، وهذه فيها خطاب للرسول ﷺ وهو خطاب لأمته، فكان الاستخلاف قياما بأحكام الله تعالى في العباد، وهو أصل في كل تشريع رباني، وكل كتاب نزل من عند الله إنما نزل ليحكم، ليقوم الناس بالقسط والعدل وفق أحكام ربانية، وكانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء بتلك الكتب والتشريعات الربانية، ثم انتقلت هذه السنة إلى الخلفاء بعد الرسول ﷺ كما في حديث البخاري عن أبي حازم قال: قاعدتُ أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي ﷺ قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر، قالوا ما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم» [رواه مسلم والبخاري وابن حنبل وابن ماجه]، فقد نص على أن سياسة الأمة تكون للنبي ﷺ ثم للخلفاء من بعده، وأمر بطاعتهم والوفاء ببيعتهم، لذلك فينبغي أن يزول الخلط بهذا بين مفهوم الدولة الإسلامية ومفهوم الخلافة، فلا يظنن ظان أن إقامة الخلافة بعد زوالها تعني مجرد بيعة الخليفة.

لذلك نكتفي بهذا في جوابنا على النقطة الثالثة التي وردت في كلام المطيري وهي” قال الدكتور المطيري:

” 3- ثم إن الصحابة هم أول من أقام الخلافة بعد عهد النبوة، وقد اجتمعوا في السقيفة، وتشاوروا فيها، وارتفعت أصواتهم، واختلفوا فيها حتى قيل (منا أمير ومنكم أمير)، وحتى قال أبو بكر (إن العرب لا ترضى إلا بهذا الحي من قريش)..الخ، ولم يدع أحد بأن النبي ﷺ جعلها عبادة لا إجتهاد فيها، أو أنه حدد لهم طريقة للاختيار فيها، فضلا عن طريقة لإقامتها ذاتها، دع عنك القول بأنها كالصلاة تؤدى كما تؤدى الصلاة والحج!”

ثالثاً: لنا أن نسجل اعتراضًا كبيرًا على ادعائه -غفر الله له- أنه ثمة خلاف بين فقهاء الأمة سلفاً وبين حزب التحرير، فهذا ادعاء لا أصل له، إذ أن علماء السلف نادراً ما تطرقوا لطريقة إقامة الدولة، بل لعلهم لم يجتهدوا في طريقة إقامتها حتى يقال بأنهم خالفوا من اجتهد فيها، وذلك لأنهم عاشوا في كنفِ دولةٍ حكمت أغلب الأرض، لم يتصوروا أمر زوالها حتى يبحثوا طريقة إعادة إقامتها لو زالت! وأما جهود إمام الحرمين أبي المعالي الجويني في كتاب “غياث الأمم في التياث الظلم”، وبحثه فيما يفعل المسلمون حين شغور الدهر عن والٍ بنفسه أو متولٍ بغيره، فإن قصارى البحث هو من يوليه المسلمون بعض شئونهم كتولي نكاح من لا ولي لها، وهكذا، لا في طريقة إقامة الدولة، وبغض النظر عن رأي الأولين أو الآخرين، فالفيصل هو الدليل.

هذا ولنا أن نسجل ندرة أبحاث السابقين من العلماء، واللاحقين منهم في فهم السيرة كطريقة لحمل الدعوة، وكيفيةٍ يتوصل بها لإيجاد الإسلام في واقع الحياة، (فإن بحثوها في إطار بحث أحكام أخرى أو سرد أحداث وقعت، فقد أوسع حزب التحرير تلك الأبحاث والوقائع بحثاً في هذا الإطار ليجتهد بأحكام الطريقة، فينزل الأحكام على واقع إقامة نظام محل نظام)، ولم يكتف حزب التحرير بدراسة السيرة لسبر أغوار هذه الزاوية المهمة للإسلام دعوة وتطبيقا، بل أضاف إليه دراسة نزول الآيات والسور وتنزيل أحكامها على الوقائع، وربط السيرة النبوية العطرة بالآيات التي وردت في القرآن الكريم لسبر أغوار هذه الزاوية أيضا.

رابعاً: ثم كيف يقول الدكتور أن الصحابة اجتهدوا فيها، ويناقض قوله السابق أن الرسول ﷺ لم يحدد طريقة لإقامة الخلافة؟ وقوله السابق: أن النبي ﷺ حدد نظام الدولة بأنه خلافة نبوة؟ وهل إجتهاد الصحابة المشار إليه في إيجاد الدولة، كما يفهم المطيري ذلك -مع أننا قلنا أنه لم يحصل مثل هذا الإجتهاد- إلا إرجاع للكتاب والسنة، فإذا كان كذلك، فهل يرجعون الأمر إلى ما لا دليل عليه فيبتدعون؟ أم أن الإجتهاد بذل الوسع في البحث في الأدلة؟ أم أن الشريعة خلت من أحكام إقامة وبيعة الخليفة، وقد امتلأت كتب الحديث بأحاديث الإمارة والبيعة ونظام الحكم؟ فكيف يستقيم الأمر؟

خامساً: إذا استثنينا بعض الأحكام الفردية التي شرعت في مكة كعبادة الصلاة، وما اتصل بالذبائح والقرابين، وصلة الأرحام، وحرمة أكل الميتة، والنهي عن قول الزور، والأمر بأداء الأمانة،… الخ، فإن أغلب التشريع المكي كان منصباً على معالجة طريقة إقامة الدولة، ومن تتبع آيات التشريع وسيرة الرسول ﷺ منذ بعثته حتى انتقاله إلى دار الحكم في المدينة، نجد أن أعماله ﷺ جلها كانت تستهدف ذلك الانتقال، وعلى رغم ما ضن به الفقهاء الأوائل في بحث هذه المرحلة حركياً، إلا أن واحداً منهم لم يزعم أن نهاية المرحلة المكية لم تكن بداية الحكم الإسلامي، والناظر إلى الأحكام المكية يجد أنها تناولت ما يتعلق بالكتلة: تأسيسها، أعمالها، والخطوط العريضة التي تحدد ملامح صراعها في الواقع الذي وجدت فيه، فضلاً عن وفرة أفكار العقيدة التي تعتبر أيضاً من ضوابط تشكيل الكتلة، إذ أنها تحدد ماهية الصراع الفكري في المجتمع، هذا الصراع الذي كان صراعاً بين الكفر والإيمان

فهل يصح بعد هذا القول أن عمل ثلاث عشرة سنة لم يكن بناءً على أحكامِ طريقةٍ معينةٍ تستهدفُ إقامة كيانٍ سياسي يضع الإسلام موضع التطبيق بأفعالٍ مخصوصةٍ تصبُّ في تحقيقِ تلك الغاية؟، وأن يكون فاعل ذلك هو رسول الله ﷺ الذي لا يخرج في فعلٍ أو قولٍ عن الوحي! يضع غايةً بهذه الخطورة، ولا يتصور الأعمال التي توصل إليها فيقوم بها! وأن هذه الأفعال غير لازمة ولا ملزمة؟ كيف وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قالَ: «خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيمًا» وَخَطَّ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: « هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيْلِهِ﴾ [الأنعام: 153]»، رواه أحمد والنسائي والدارمي.

 

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة