هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟ – البيان والمبين في أفعال الرسول-1

هل حدد الرسول ﷺ  طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

(الحلقة الثالثة عشرة- البيان والمبين في أفعال الرسول-1)

للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنـا

 

البيان والمبين في أفعال الرسول

جاء في كتاب أحكام القرآن للشافعي: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾، [ قَالَ ] فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّ { السُّدَى } الَّذِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى. وَمَنْ أَفْتَى أَوْ حَكَمَ بِمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، فَقَدْ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَعَانِي السُّدَى وَقَدْ أَعْلَمَهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَمْ يُتْرَكْ سُدًى وَرَأَى أَنْ قَالَ أَقُولُ مَا شِئْتُ، وَادَّعَى مَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ. قَالَ اللَّهُ (جَلَّ ثَنَاؤُهُ) لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾[1]، وقد تضمن هذا القرآن ما تصلح به البشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾، 38 الأنعام. وقد جعل سبحانه سنة نبيه ﷺ مُبَيِّنَةً وشارحة لما يراد بيانه وشرحه من القرآن الكريم[2]، قَالَ تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ 44 النحل، فعلاوة على أن الشرع جاء ليسوس أفعال العباد بالأحكام المنزلة بالوحي، فإن الشرع أجمل وبين، ولم يترك الناس سدى بلا أمر أو نهي، وهو تعالى الذي سيحاسبهم على مثقال الذر من عمل الخير أو الشر، وهذا يعني أنه أنذرهم بما يبين لهم أن مثقال الذر  من أعمالهم هذا خير، أو أنه شر، وأقام الحجة عليهم بالأدلة، والأمارات، حتى لا يكون لهم عليه حجة بعد الرسل، فعلم من هذا أنهم محاسبون على اتباع الوحي، وأن الوحي لم يترك لهم صغيرة ولا كبيرة إلا وأمرهم ونهاهم وبين لهم وأقام الحجة عليهم، ولم يتركهم سدى حتى في مثقال الذر من العمل[3]!. ولا يوجد في الشريعة منطقة فراغ تشريعي، وقد استفضت في بحث هذه الأمور كلها في كتابي: لا يصلح الإنسان في أي زمان أو مكان إلا بالإسلام، فيراجع حتى لا يحصل التكرار.

لقد تبين بعد الاستقراء للكتاب والسنة أن أقسام الكتاب والسنة تنحصر في خمسة أقسام: الأول: الأوامر والنواهي، والثاني: العموم والخصوص، والثالث: المطلق والمقيد، والرابع: المجمل والبيان والمبين[4]، والخامس: الناسخ والمنسوخ. وما عدا هذه الخمسة لا اعتبار له كقسم خاص، وإنما هو راجع لواحد منها، أو راجع إلى اللغة،[5]

جاء في كتاب غاية الوصول في شرح لب الأصول ص 90 “وقد قال صاحب الواضح من الحنفية في الأخيرين (أي: القول والفعل) لا أعلم خلافا في أن البيان يقع بهما “اهـ، وقال الآمدي في الإحكام: “مذهب الأكثرين أن الفعل يكون بيانا، خلافا لطائفة شاذة.”

وقد ذكر الآمدي في الإحكام الأدلة على وقوعه بيانا فقال:” ويدل على ذلك النقل والعقل، أما النقل: فما روي عن النبي ﷺ أنه عرف الصلاة والحج بفعله حيث قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، و«خذوا عني مناسككم ». وأما العقل: فهو أن الإجماع منعقد على كون القول بيانا، والإتيان بأفعال الصلاة والحج؛ لكونها مشاهدة أدل على معرفة تفصيلها من الإخبار عنها بالقول، فإنه ليس الخبر كالمعاينة ولهذا كانت مشاهدة زيد في الدار أدل على معرفة كونه فيها من الإخبار عنه بذلك، وإذا كان القول بيانا، مع قصوره في الدلالة عن الفعل المشاهد، فكون الفعل بيانا أولى”[6]. وهذا ينطبق فقط على جيل الصحابة الذين رأوا الرسول ﷺ، وأما من جاء بعدهم فلم يشاهدوا فعل الرسول ﷺ فيستوي عند ذلك الفعل والقول بالنسبة لهم، ولذلك فقول الرسول يعتبر بالنسبة للتابعين وبالنسبة لنا أقوى من الفعل، تماماً كما أن آحاد الصحابة الذين سمعوا الرسول ﷺ يقول حديثا ونقلوه لنا فهو بالنسبة لهم قطعي الثبوت وبالنسبة لمن جاء بعدهم ولنا، فهو ظني الثبوت لأنه نقل آحادا. فهناك خصوصية للصحابة في هذين الأمرين. (إلا أن يكون نقل الفعل عن طريق التواتر، كنقل ركعتي سنة الفجر مثلا، فهنا يكون الفعل قطعيا ويكون في الدلالة شأنه شأن القول المتواتر).

والبيان هو إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز الوضوح[7]، أو هو العلم أو الظن الحاصل من الدليل؛ ولذلك عرفه بعضهم بأنه الدليل. فقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ مجمل، وما روي عنه ﷺ أنه عرف الصلاة بفعله حيث قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» أخرجه البخاري، بيان لهذا المجمل. فما عدا ما بينه الرسول من الصلاة لا يجوز أن يؤتى به باعتباره صلاة، لأننا مقيَّدون بما بينه الرسول . وقوله تعالى: ﴿وَآَتَوُا الزَّكَاةَ﴾ مجمل، وما ورد في أحاديث رسول الله ﷺ حول زكاة الأصناف التي تزكى، هو بيان للمجمل، ببيان المقدار الذي يؤخذ من هذه الأنواع، وبيان النصاب فيها. وما عدا ذلك لا تؤخذ منه الزكاة، ويحرم أخذها بوصفها زكاة من غير ما جاء الشرع ناصاً على نصابه، وقد قال رسول الله ﷺ: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ لاَ يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ» أخرجه مسلم.

كل هذا بيان للمجمل؛ وعليه فإن البيان هو الدليل الذي بيـّن المجمل[8].  وينبغي الإشارة هنا إلى أن البيان في أفعال رسول الله ﷺ بخصوص الصلاة والحج لا تأتي فقط من حديث صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم، بل من مجموعة الأدلة والأمارات والأفعال والأقوال التي قام بها الرسول ﷺ منذ فرضت الصلاة في مكة إلى انتقاله للرفيق الأعلى. وكذلك ينبغي التنبيه إلى أن قوله ﷺ «صلوا كما رأيتموني أصلي»، لا يختص فقط بحادثة مالك بن الحويرث وقومه في أخريات العهد المدني، حين قال له الرسول ﷺ «صلوا كما رأيتموني»، بل تمتد إلى أن صلوا أيها المسلمون كما رأيتموني أصلي منذ فرض الصلاة، وهذا يحل إشكالا سنورده بعد قليل بإذن الله.

وأما المبين فقد يطلق ويراد به ما كان من الخطاب المبتدأ المستغني بنفسه عن بيان، وقد يراد به ما كان محتاجاً إلى البيان، وقد ورد عليه بيانه، وذلك كاللفظ المجمل إذا بين المراد منه، والعام بعد التخصيص، والمطلق بعد التقييد، والفعل إذا اقترن به ما يدل على الوجه الذي قصد منه، إلى غير ذلك.

وإذا حصل البيان بقول من الرسول وبفعل منه، أي اجتمع الفعل والقول في البيان، فإنه ينظر فيه، فإن توافق في الدلالة على حكم واحد فالسابق منهما هو البيان، سواء أكان قولاً أم فعلاً، لحصول المقصود به، والثاني تأكيد. وإن اختلفا في الدلالة على الحكم، كما روي عنه ﷺ  أنه بعد آية الحج قال: «مَنْ قَرَنَ حَجّاً إِلَى عُمْرَةٍ فَلْيَطُفْ طَوَافاً وَاحِداً» وروي عنه ﷺ  أنه قرن فطاف طوافين وسعى سعيين، ففي هذه الحال ينظر، فإذا لم يعلم تقدم أحدهما، بأن جهل أيهما كان قبل الآخر، هل كان القول أولاً أو الفعل، فإنه يؤخذ بالقول؛ وذلك لأن القول يدل بنفسه على كونه بياناً، بخلاف فعل الرسول فإنه لا يدل بنفسه على كونه بياناً بل بالواسطة؛ لأنه إنما يعلم كون الفعل بياناً للمجمل بأحد أمور ثلاثة: أحدها: أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده، أي لا يتم كونه بياناً دون اقتران العلم الضروري بقصد النبي ﷺ  البيان به. وثانيها: أن يقول الرسول هذا الفعل بيان للمجمل. وثالثها: أن يذكر المجمل وقت الحاجة إلى العمل به، ثم يفعل فعلاً يصلح أن يكون بياناً له، ولا يفعل شيئاً آخر، فيعلم أن ذلك الفعل بيان له. فالفـعـل لا يكون بياناً بذاته، والقول يكون بياناً بذاته؛ ولهذا يؤخذ بالقول[9]، فيقدر كونه هو المتقدم، ويحمل الفعل على أن الطواف الثاني مندوب. وأما إن علم تقدم أحدهما على الآخر، فإنه ينظر، فإن كان القول متقدماً فالطواف الثاني غير واجب، وفعل النبي يجب أن يحمل على كونه مندوباً، وإن كان المتقدم هو الفعل، فإن القول يكون ناسخاً لوجوب الطواف الثاني الذي دل عليه الفعل، أو يحمل فعل الرسول على بيان وجوب الطواف الثاني في حقه دون أمته.[10]


[1] أحكام القرآن للشافعي، فصل في إبطال الاستحسان

[2] أثر الإجمال والبيان في الفقه الإسلامي محمد إبراهيم الحفناوي

[3] يختص التشريع بالأمور المتعلقة بالحضارة، أي طريقة العيش مما يتعلق بوجهة النظر في الحياة، ومجموع المفاهيم عن الحياة، سواء تلك المتعلقة بالنظرة إلى الحياة، أو كانت متعلقة بمعالجة مشاكل الحياة، وكذلك المعارف الثقافية، فهذه كلها تدخل في التشريع، ويضاف إلى ذلك أن التشريع يختص بالأشكال المدنية التي تكون نتاج التأثر بوجهة النظر عن الحياة أي الأشكال المدنية الناتجة عن الحضارة كالتماثيل، وأشكال معينة من الفن والرسم، وبعض الصناعات مثل صناعة الصلبان مثلا، والعلوم التجريبية وما يلحق بها إذا كانت بعض هذه العلوم تُؤدي إلى زيغ في العقائد، أو ضعف في المعتقدات، فإن هذه العلوم فقط يحرم تعليمها.

ولا يختص التشريع بالمدنية، (أنتم أدرى بشئون دنياكم)، التي تنتج عن العلم والتكنولوجيا وتقدمها، والصناعة ورقيها، كأدوات المختبرات والآلات الطبية والصناعية، والأثاث والطنافس والعمران وما شاكلها والعلوم المختلفة (النظرية والتجريبية) كالطب والهندسة والرياضيات وعلم الإقتصاد الذي يَبحث في الإنتاج وتحسينه وإيجاد وسائله وتحسينها، وهذا عالمي عند جميع الأمم لا يختص به مبدأ دون آخر، كسائر العلوم، فالإسلام عند معالجته للاقتصاد، فصل بين النظام الإقتصادي وبين علم الإقتصاد، وبالتالي فلم يحجر على تفكير البشر في إبداعاتهم في علم الإقتصاد وطريقة تحسين الانتاج مثلا.

[4] أنظر: أثر الإجمال والبيان في الفقه الإسلامي محمد إبراهيم الحفناوي

[5] الشخصية الإسلامية، تقي الدين النبهاني، الجزء الثالث، أقسام الكتاب والسنة.

[6] الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: القاعدة الثانية في بيان الدليل الشرعي وأقسامه، وما يتعلق به من أحكامه\ القسم الأول فيما يجب العمل به مما يسمى دليلا شرعيا/ الأصل الرابع فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع

[7] قال أبو بكر الصيرفي: البيان هو التعريف، وعبر عنه بأنه إخراج الشيء عن حيز الإشكال إلى حيز الوضوح والتجلي. وذهب القاضي أبو بكر والغزالي وأكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة: كالجبائي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري وغيرهم، إلى أن البيان هو الدليل، وهو المختار (الآمدي).

الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: القاعدة الثانية في بيان الدليل الشرعي وأقسامه، وما يتعلق به من أحكامه\ القسم الأول فيما يجب العمل به مما يسمى دليلا شرعيا\  الأصل الرابع فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع.

[8] قال الأشعري والجبائي بأن البيان هو الأدلة التي يتبين منها الأحكام.

[9] في النسخ القديمة من كتاب الشخصية وردت الجملة خطأ على النحو التالي: والقول يكون بياناً بذاته؛ ولهذا لا يؤخذ بالقول، فيقدر كونه هو المتقدم. وقد صحح الأمير عطاء بن خليل الخطأ بتاريخ 12/8/2010 وتمت ازالة كلمة (لا) لأنها تقلب المعنى، وقد تم التعديل في النسخة التي على المكتب الاعلامي في الصفحة 267 من الكتاب.

[10] الشخصية الإسلامية، تقي الدين النبهاني، الجزء الثالث، البيان والمبين. ومقدمة الدستور، أو الأسباب الموجبة له،  المادة 130. المحصول ج1 ق 3 ص 272و نهاية السول 2\151، أصول الفقه للشيخ زهير 3\ 21، أثر الإجمال والبيان في الفقه الإسلامي، الحفناوي، ص، 82. شرح الأسنوى مع الإبهاج: 2/ 138. الإحكام في أصول الأحكام للآمدي.

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة