هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟ – هل هناك دليل من القرآن على وجود طريقة محددة لإقامة الدولة؟

هل حدد الرسول ﷺ  طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

(الحلقة السادسة عشرة- هل هناك دليل من القرآن على وجود طريقة محددة لإقامة الدولة؟)

للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنـا

 

هل هناك دليل من القرآن على وجود طريقة محددة لإقامة الدولة؟[1]

الدليل على وجود طريقة محددة لحمل الدعوة في مكة للرسول ﷺ ولكتلة الصحابة بأحكام سير واضحة للوصول إلى إقامة الدولة والنصر والتمكين، هو في الآيات الأخيرة من سورة يوسف عليه سلام الله (101- 111)، من نهاية قصة يوسف عليه سلام الله وقد آتاه الله الملك (الآية 101) ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾، إلى نهاية السورة، مرورا بإشارات لصراع النبي ﷺ في مكة والتي وصلت لمحاولات قتله، وهذه الآيات العشرة، مع قصة يوسف عليه سلام الله وما فيها من ابتلاءات وتمكين بعدها، تبين سنن الله في هذا الصراع وفيها عبرة للرسول ﷺ وللمؤمنين معه ولأولي الألباب من بعده، ودافع للثبات على المنهاج الحق والطريقة القويمة المبصرة، وهي ليست حديثا مفترى كما ذكر الله في الآية ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [ يوسف 111].  

وقد ورد أنَّ سورة يوسف نزلت في مكَّة، وتحديداً في عام الحزن؛ أي العام العاشر لبعثة النّبي ﷺ وهذا فيه إشارة خاصة لطلب النصرة قبل هجرة الرسول ﷺ للمدينة بقليل، وقد نزلت في وقت كان ﷺ بأمس الحاجة لمثلها وقد بلغ الأذى به وبصحابته كل مبلغ، بعد حصار الشعب، واشتداد أذى قريش، واستحكام انغلاق المجتمع المكي في وجهه ﷺ، وفي مثل حاله قد يتساءل: هل من تقصير في حمل الدعوة؟ هل من طريقة أخرى يمكن اتباعها؟ (مصداق ذلك قوله تعالى ﴿حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ [110]،) وفي هذه الآيات حديث مسهب عن الدعوات والصراع بين الحق والباطل،﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ۝ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ 102- 103. والنبي ﷺ يأتيهم بالآيات البينات، حريصا على هدايتهم، وهم عنها معرضون، يأمنون مكر الله، وهو يحذرهم منه: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ۝  وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ۝ أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ 105-107، وفي الآيات سنن الله في انتصار الدعوات، بالثبات على الحق، والتزام السبيل الموصل للغاية، أي الطريقة المبصرة، وفيها مثال لتمكين الله للمستضعفين، كما آتى الله الملك لسيدنا يوسف عليه سلام الله في مصر ثم أدخل جميع بني إسرائيل إلى مصر وأصبحوا في عزة وأمن وتمكين. وكل هذا كان بناء على استحقاق النصر باتباع سبيل واضحة المعالم، على بصيرة: وذلك في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ يوسف 108، ففي هذه الآية إشارة واضحة لطريقة الرسول ﷺ وأمر باتباعها لمن اتبعه ﷺ وعدم الحيود عنها، لأنها أتت وقد بلغ الأذى وانغلاق المجتمع مبلغه، وفي مثل هذه الأحوال قد يبحث الدعاة عن مخرج!.

وقد تلت الآية 108 آيةٌ أخرى وهي: ﴿حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [110][2] وهي بشارة لسيدنا محمد ﷺ بالنصر القريب وتعذيب المجرمين بعد حصول الاستيئاس. نرى في الآية حديثاً عن استيئاس الرسل، فدأب الرسل عليهم صلوات الله وسلامه جميعا في دعواتهم[3] أن يكونوا حريصين على إيمان أقوامهم عالمين على بصيرة في دعوتهم وسبيلهم؛ يرون هذا الصدود والبعد عن الحق، وهم لا يدخرون طاقة في سبيل إيصال الحق لأقوامهم، وكلما كان الأمل يملأ أرجاء نفوسهم بهداية أقوامهم، وانتصار دعواتهم، فيحتكم أقوامهم إلى شرائعهم ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ 25 الحديد، وجدوا الصد والجحود يتماديان فيستيئسوا من إيمان القوم ولا ييأسوا (فرق بين الاستيئاس، واليأس ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ يوسف 87،) والاستيئاس، مقابل اليأس، يترك الاستيئاس مجالا للأمل والرجاء والحافز لاستمرار الدعوة وهو خلق الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه جميعا إذا وصلوا في صراعهم مع أقوامهم حد المفاصلة والأذى الشديد؛ لهذا كانت الفاصلة المناسبة للحديث عن هؤلاء الدعاة ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ  لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ﴾ 109، يوسف، فهم بينا لا ييأسون ولا ينقطع الأمل لديهم يذكرهم المولى عز وجل بالدار الآخرة؛ وفيها الجزاء الذي يهون معه الصعب ويحفز النفس على المضي في هذا الدرب الصعب، لرحمتهم وأملهم بأن يستنقذوهم من النار؛ وأملهم في أن تسود شرائعهم، وينتصر الحق ويزهق الباطل، فهذه سنة في الدعوات، أن يشتد الصراع بين الحق والباطل حتى يستحق مَنْ هو على الحق بأن يتنزل عليه النصر بالثبات، ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾ 214 البقرة، فهي سنة من سنن الله تعالى في الدعوات، سواء أنتصر في نفس المجتمع الذي يدعو فيه (مكة) أو تنزل النصر عليه في مكان آخر (المدينة)، فيزهق الباطل بعد مدافعته بالحق وقذفه بالحق قذفا: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ الأنبياء 18،

وكذلك في الآية حديث عن الظن بأنهم قد كذبوا، (قراءتان: بالتشديد: كُذِّبُوا، أي كذَّبتهم أقوامُهم، وبالتخفيف: كُذِبُوا) ففي المقابل، بينما يحرص الأنبياء على أقوامهم ودعواتهم والحق الذي لديهم بأن ينتصر، نرى المكذبين من أهل القرى ﴿المجرمين﴾ المستهينين ببأس الله ﴿وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ يسخرون من هؤلاء الحريصين على هدايتهم، وهم يحرصون على عقائدهم، فهم يظنون أنهم قد كُذبوا، أي كَذَبتْهُمْ رسُلُهم، أو يظنون أن رُسُلَهُمْ قد كُذِبُوا، وأن باستطاعتهم إخماد أنفاس الحق، فاستحقوا بهذا وصف المجرمين وأن لا يرد بأس الله عنهم كما في فاصلة الآية، فكان وصول الصراع بين الحق والباطل لهذه الدرجة من الشدة، مؤذنا بنزول النصر على الحق، وقد بلغه رسول الله ﷺ واشتد به الأذى والتكذيب في عام الحزن، وما سبقه من مقاطعة في شعب بني هاشم، فأمره الله بالثبات على الطريقة، فهذا النصر سيكون استحقاقا من السير في الدعوة إلى الله بطريقة محددة واضحة المعالم (بصيرة) والثبات عليها وعدم الحيد عنها.

ففي هذه الآيات يشير القرآن الكريم إلى وجود طريقة محددة يسير عليها الرسول ﷺ وأتباعه (صحابته) في الدعوة إلى الله في مكة، بقوله ﴿هذه سبيلي﴾ ولفظة هذه اسم إشارة للقريب للدلالة على أمر محدد وهو “السبيل[4]“، والسبيل جاءت مضافة إلى ياء المتكلم أي سبيل وطريق الرسول ﷺ، ثم شرحها وعرفها بقوله ﴿على بصيرة﴾ وقوله ﴿على بصيرة﴾ جارّ ومجرور متعلّقان بحال من فاعل أدعو، فالبصيرة هي صفة للدعوة المبصرة الواضحة والمقصودة، أو أنها (الجار والمجرور) حال للداعي، وهذا ينفي عنها الإرتجال أو العفوية أو أنها طريقة أتت اتباعا لما تسمح به الظروف والأحوال في مكة، بل هي على هدى ونور من الله وتخطيط وعمل دقيق من الرسول ﷺ، ثم أضاف إليها ﴿أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ فهذه إشارة واضحة بأنها طريقة ليست خاصة بالرسول ﷺ وحده بل هي طريقة له ولأتباعه لأن لفظة ﴿من﴾ تفيد العموم وهي للعاقل وأتباع الرسول ﷺ هم الصحابة، ومن جاء من بعدهم، أي أنها طريقة لكتلة الصحابة جميعا بقيادة رسول الله ﷺ، وهي للتأسي.

قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: “وهو المعبر عنه بالسبيل على وجه الاستعارة لإبلاغها إلى المطلوب … كإبلاغ الطريق إلى المكان المقصود للسائر، وهي استعارة متكررة في القرآن … ﴿على﴾  فيه للاستعلاء المجازي المراد به التمكن مثل ﴿على هدى من ربهم﴾ والبصيرة فعيلة بمعنى فاعلة، …  والمعنى أدعو إلى الله ببصيرة متمكناً منها” فالسبيل هنا: الطريق الموصلة للغاية.

وخلاصة الفهم لهذه الآيات من سورة يوسف أن اتِّباع الرسول ﷺ والصحابة لطريقة واضحة المعالم في الدعوة إلى الله في مكة ستؤدي حتما إلى النصر، وهذه سنة الله التي خلت من قبل في أنبيائه كما فصلت السورة، وهي عبرة لأولي الألباب وليست أساطير مختلقة ومفتراة، ولكن قبل نصر الرسل ودعوتهم لا بد من امتحانٍ وابتلاءٍ وتمحيصٍ لمعرفةِ ثباتهم على الحق وعلى الطريقة وعدم الزيغ عنها، حتى يصل بهم الحال لدرجة الاستيئاس -لا اليأس- والظن بحصول التكذيب، عبر اتهام النفس بالتقصير في أداء الدعوة وعدم استحقاق نزول النصر من الله تبارك وتعالى، فيكون الجواب بأن السير على بصيرة مؤذن بتنزيل النصر، فلا يأس، وعندها يهيء اللهُ الأسباب ليتنزل نصر الله تبارك وتعالى عليهم، وهذا ما حصل مع الرسول ﷺ بعد عام الحزن من طلب للنصرة، ثم قبول أهل المدينة المنورة ليكونوا أنصارا لله ﷻ وللرسول ﷺ، ثم كانت الهجرة للمدينة وإقامة دولة الإسلام وحصل التمكين للمستضعفين من المهاجرين وكذلك الأمن والعزة والنصر للرسول ﷺ وللمسلمين.

وهذا الأمر ليس خاصا بالرسول ﷺ وصحابته بل هو عام يدركه أولوا الالباب، لأن الأمر فيه عبرة، والعبرة لا تكون إلا في سنة جارية مضطردة لا تتبدل ولا تتغير، فمن يسير على طريقة وسبيل الرسول ﷺ في الدعوة إلى الله في مكة على بصيرة، سيحقق الله له ما حققه لرسوله وأنبيائه عليهم أتم الصلاة وأزكى التسليم من قبل من النصر والأمن والتمكين، فهل من معتبر؟!

[1] للأستاذ المفكر يوسف الساريسي

[2] يقول سيد قطب رحمه الله: “إنها صورة رهيبة ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود، وتمر الأيام وهو يدْعون فلا يستجيب لهم إلا قليل وتكر الأعوام والباطل في قوته وكثرة أهله والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة.. إنها ساعات حرجة والباطل يتفشى ينتفش ويطـغى ويبطش ويغدر، والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض فتهجس في خواطرهم الهواجس.. تراهم كُذِبوا؟ تُرى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟ وما يقف الرسول ﷺ هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيق بشر.. وما قرأت هذه الآية والآية الأُخرى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾ 214 البقرة، ما قرأت تلك الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصوّر الهول الذي يبلغ بالرسول ﷺ هذا المبلغ ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس والكرب المزلزِل الذي يرج نفس الرسول ﷺ هذه الرجة وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات وما يحس به من ألم لا يُطاق.. في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل ولا تبقى ذرة من الطاقة المدّخرة.. في هذه اللحظة يجيء النصر كاملا حاسماً فاصلا”. في ظلال القران. سيد قطب 4/2035-2036.

[3] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾، فهذه سنة في الدعوات وفي الرسالات ثابتة.

[4] السبيل تأتي مذكرة وتأتي مؤنثة وكلاهما فصيح.

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة