إقامة الدولة في ظل قانون السببية: أنواع السُّنَنْ

إقامة الدولة في ظل قانون السببية

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

(الجزء التاسع: أنواع السُّنَنْ)

يرى السيد محمد باقر الصدر أن القرآن الكريم أكد على ثلاث حقائق بالنسبة إلى سنن التاريخ:

“الحقيقة الأولى: أن السنن القرآنية للتاريخ ذات طابع علمي؛ لأنها تتميز بالاطراد الذي يميز القانون العلمي.

الحقيقة الثانية: أنها ذات طابع رباني؛ لأنها تمثل حكمة الله وحسن تدبيره على الساحة التاريخية.

الحقيقة الثالثة: أنها ذات طابع إنساني؛ لأنها لا تفصل الإنسان عن دوره الإيجابي ولا تعطل فيه إرادته وحرية اختياره، وإنما تؤكد أكثر فأكثر على مسؤوليته على الساحة التاريخية.[1]

وليست كل الأحداث والقضايا تحكمها السنن التاريخية، إذ قد تحكمها السنن (القوانين) الفيزيائية، وقوانين الحياة، وإنما “العمل التاريخي الذي تحكمه سنن التاريخ هو العمل الذي يكون حاملا لعلاقة مع هدف وغاية، ويكون في نفس الوقت ذا أرضية أوسع من وجود الفرد، ذا موج يتخذ من المجتمع علة مادية له وبهذا يكون عملا اجتماعيا”.

ثم يستنبط الصدر ثلاثة أشكال للسنة التاريخية في القرآن الكريم، ويفرق بينها:

1 ـ الشكل الأول للسنة التاريخية: هو شكل القضية الشرطية. في هذا الشكل تتمثل السنة التاريخية في قضية شرطية تربط بين حادثتين أو مجموعتين من الحوادث على الساحة التاريخية وتؤكد العلاقة الموضوعية بين الشرط والجزاء، وأنه متى ما تحقق الشرط تحقق الجزاء. وهذه صياغة نجدها في كثير من القوانين والسنن الطبيعية والكونية في مختلف الساحات الأخرى. فمثلا: حينما نتحدث عن قانون طبيعيلغليان الماء، نتحدث بلغة القضية الشرطية، نقول بأن الماء إذا تعرض إلى الحرارة بدرجة معينة سوف يحدث الغليان. هذا قانون طبيعي يربط بين الشرط والجزاء.

الشيء نفسه نجده في الشكل الأول من السنن التاريخية القرآنية، فإن عددا كبيرا من السنن التاريخية في القرآن قد تمت صياغتها على شكل القضية الشرطية التي تربط ما بين حادثتين اجتماعيتين أو تاريخيتين، بحيث إنه متى وجدت الحادثة الأولى وجدت الحادثة الثانية. ففي قوله تعالى ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11] إشارة إلى سنة تاريخية بُيِّنَتْ بلغةِ القضيةِ الشرطيةِ؛ لأن مرجع هذا المفاد القرآني إلى أن هناك علاقة بين تغييرين: بين تغيير المحتوى الداخلي للإنسان، وتغيير الوضع الظاهري للبشرية والإنسانية. مفاد هذه العلاقة قضية شرطية: أنه متى ما وجد ذاك التغيير في أنفس القوم وجد هذا التغيير في بنائهم وكيانهم. هذه السنة جاءت بلغة القضية الشرطية كما هو الواضح من صياغتها النحوية أيضا.

2 ـ الشكل الثاني الذي تتخذه السنن التاريخية: شكل القضية الفعلية الناجزة الوجودية المحققة، وهذا الشكل أيضا نجد له أمثلة وشواهد في القوانين الطبيعية والكونية. مثلا: العالم الفلكي حينما يصدر حكما علميا على ضوء قوانين مسارات الفلك، بأن الشمس سوف تنكسف في اليوم الفلاني أو أن القمر سوف ينخسف في اليوم الفلاني، فإنه قانون علمي وقضية علمية، إلا أنها قضية وجودية ناجزة، ليست قضية شرطية. فالإنسان لا يملك تجاه هذه القضية أن يغير من ظروفها، أو أن يعدل من شروطها؛ لأنها لم تبين كلغة قضية شرطية، وانما صيغت بلغة التنجيز والتحقيق بلحاظ مكان معين وزمان معين. هذا هو الشكل الثاني من السنن التاريخية. «وما منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء».

3 ـ الشكل الثالث للسنة التاريخية: وهو شكل اهتم به القرآن الكريم اهتماما كبيرا، وهو السنة التاريخية المصاغة على صورة تجاه طبيعي في حركة التاريخ لا على صورة قانون صارم حدي. وفرق بين الاتجاه والقانون. ولكي تتضح الفذلكة في ذلك لا بد وأن نطرح الفكرة الاعتيادية التي نعيشها في أذهاننا عن القانون!

القانون العلمي كما نتصوره عادة: عبارة عن تلك السنة التي لا تقبل التحدي من قبل الإنسان؛ لأنها قانون من قوانين الكون والطبيعية فلا يمكن للإنسان أن يتحداها ويخرج عن طاعتها. يمكنه أن لا يصلي؛ لأن وجوب الصلاة حكم تشريعي وليس قانونا تكوينيا، يمكنه أن يشرب الخمر؛ لأن حرمة شرب الخمر قانون تشريعي وليس قانونا تكوينيا، لكنه لا يمكنه أن يتحدى القوانين الكونية والسنن الموضوعية، مثلا: لا يمكنه أن يجعل الماء لا يغلي إذا توفرت شروط الغليان، لأن هذا قانون، والقانون صارم، والصرامة تأبى التحدي.

هذه هي الفكرة التي نتصورها عادة عن القوانين، وهي فكرة صحيحة إلى حد ما، لكن ليس من الضروري أن تكون كل سنة طبيعية موضوعية على هذا الشكل بحيث تأبى التحدي ولا يمكن تحديها من قبل الإنسان بهذه الطريقة.

بل هناك اتجاهات موضوعية في حركة التاريخ وفي مسار الإنسان، إلا أن هذه الاتجاهات لها شيء من المرونة بحيث إنها تقبل التحدي ولو على شوط قصير، وإن لم تقبل التحدي على شوط طويل. أنت لا تستطيع أن تؤخر موعد غليان الماء لحظة، لكن تستطيع أن تجمد هذه الاتجاهات لحظات من عمر التاريخ، لكن هذا لا يعني أنها ليست اتجاهات تمثل واقعا موضوعيا في حركة التاريخ، هي اتجاهات ولكنها مرنة تقبل التحدي لفترة ثم تحطم المتحدي نفسه.

إن هناك اتجاها في تركيب الإنسان، اتجاها موضوعيا لا تشريعيا، إلى إقامة العلاقات المعينة بين الذكر والأنثى في مجتمع الإنسان ضمن إطار من أُطر النكاح. لا نستطيع أن نقول: إن هذا مجرد قانون تشريعي أو مجرد حكم شرعي، وإنما هذا اتجاه رُكب في طبيعة الإنسان وفي تركيبه، وهو الاتجاه إلى الاتصال بين الذكر والأنثى وإدامة النوع عن طريق هذا الاتصال ضمن إطار من أُطر النكاح الاجتماعي، هذه سنة، لكنها سنة على مستوى الاتجاه لا على مستوى القانون. لماذا؟ لأن التحدي لهذه السنة لفترة ما ممكن. أمكن لقوم لوط أن يتحدوا هذه السنة فترة من الزمن، بينما لم يكن بإمكانهم أن يتحدوا سنة الغليان بشكل من الأشكال، لكنهم تحدوا هذه السنة، إلا أن تحدي هذه السنة على المدى الطويل يؤدي إلى أن يتحطم المتحدي كما تحطم مجتمع قوم لوط.

كل اتجاه من هذا القبيل هو في الحقيقة سنة موضوعية من سنة التاريخ ومن سنن حركة الإنسان، ولكنها سنة مرنة تقبل التحدي على الشوط القصير، ولكنها تجيب على هذا التحدي.

… لكن هناك ظواهر على الساحة التاريخية تحمل علاقة من نمط آخر وهي علاقة ظاهرة بهدف علاقة نشاط بغاية أو ما يسميه الفلاسفة بالعلة الغائية تميزا عن العلة الفاعلية، هذه العلاقة علاقة جديدة متميزة، غليان الماء بالحرارة، يحمل مع سببه مع ماضيه لكن لا يحمل علاقة مع غاية ومع هدف ما لم يتحول إلى فعل إنساني [يغلي الماء لهدف لديه] وإلى جهد بشري، بينما العمل الإنساني الهادف يحتوي على علاقة لا فقط مع السبب، ولا فقط مع الماضي، بل مع الغاية التي هي غير موجودة حين إنجاز هذا العمل وإنما يترقب وجودها. أي العلاقة هنا علاقة مع المستقبل لا مع الماضي، الغاية دائما تمثل المستقبل بالنسبة إلى العمل، بينما السبب يمثل الماضي بالنسبة إلى هذا العمل. فالعلاقة التي يتميز بها العمل التاريخي، العمل الذي تحكمه سنن التاريخ هو أنه عمل هادف، عمل يرتبط بعلة غائية سواءً أكانت هذه الغاية صالحة أم طالحة، نظيفة أم غير نظيفة، على أي حال يعتبر هذا عملا هادفا، يعتبر نشاطا تاريخيا يدخل في نطاق سنن التاريخ على هذا الأساس وهذه الغايات التي يرتبط بها هذا العمل الهادف المسؤول، هذه الغايات حيث إنها مستقبلية بالنسبة إلى العمل فهي تؤثر من خلال وجودها الذهني في العامل لا محالة، لأنها بوجودها الخارجي، بوجودها الواقعي، طموح وتطلع إلى المستقبل، ليست موجودة وجودا حقيقيا وإنما تؤثر من خلال وجودها الذهني في الفاعل. إذن المستقبل أو الهدف الذي يشكل الغاية للنشاط التاريخي يؤثر في تحريك هذا النشاط وفي بلورته من خلال الوجود الذهني أي من خلال الفكر الذي يمثل فيه الوجود الذهني للغاية ضمن شروط ومواصفات، حينئذ يؤثر في إيجاد هذا النشاط، إذ حصلنا الآن على مميز نوعي للعمل التاريخي لظاهرة على الساحة التاريخية، هذا المميز غير موجود بالنسبة إلى سائر الظواهر الأخرى على ساحات الطبيعة المختلفة، هذا المميز ظهور علاقة فعل بغاية نشاط بهدف في التفسير الفلسفي، ظهور دور العلة الغائية، كون هذا الفعل متطلعا إلى المستقبل، كون المستقبل محركا لهذا الفعل من خلال الوجود الذهني الذي يرسم للفاعل غايته أي من خلال الفكر إذن هذا هو في الحقيقة دائرة السنن النوعية للتاريخ.

إذن فالسنن النوعية للتاريخ موضوعها ذلك الجزء من الساحة التاريخية الذي يمثل عملا له غاية، عملا يحمل علاقة إضافية إلى العلاقات الموجودة في الظاهرة الطبيعية وهي العلاقة بالغاية والهدف، بالعلة الغائية، لكن ينبغي هنا أيضا أنه ليس كل عمل له غاية هو عملا تاريخيا، عملا تجري عليه سنن التاريخ بل يوجد بعد ثالث لا بد أن يتوفر لهذا العمل لكي يكون عملا تاريخيا أي عملا تحكمه سنن التاريخ. البعد الأول كان هو «السبب» والبعد الثاني كان هو الغاية «الهدف».

لا بد إذن من بعد ثالث لكي يكون هذا العمل داخلا في نطاق سنن التاريخ، هذا البعد الثالث هو أن يكون لهذا العمل أرضية تتجاوز ذات العامل، أن تكون أرضية العمل هي عبارة عن المجتمع، قد يأكل الفرد إذا جاع ويشرب إذا عطش، لكن هذه الأعمال على الرغم من أنها أعمال هادفة أيضا تريد أن تحقق غايات ولكنها أعمال لا يمتد موجها أكثر من العامل خلافا لعمل يقوم به الإنسان من خلال نشاط اجتماعي وعلاقات متبادلة مع أفراد جماعته، فمثلا التاجر حينما يعمل عملا تجاريا أو القائد حينما يعمل عملا حربيا أو السياسي حينما يمارس عملا سياسيا، المفكر حينما يتبنى وجهة نظر في الكون والحياة [2].


[1] الشهيد محمد باقر الصدر، السنن التاريخية في القرآن الكريم.

[2] الشهيد محمد باقر الصدر، السنن التاريخية في القرآن الكريم.

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة