المادة -12-

المادة 12 –  الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس هي وحدها الأدلة المعتبرة للأحكام الشرعية.

ليس معنى هذه المادة أن الدولة تتبنى طريقة في الاجتهاد، بل معناها أن الدولة تتبنى طريقة في تبني الأحكام؛ لأن تبني الأحكام، منه ما هو فرض عليها، ومنه ما هو جائز لها. وهذا التبني إذا حصل على طريقتين متناقضتين فإنه يوجد تناقضاً في الأسس التي جرى عليها التبني، ومن هنا تتبنى الدولة طريقة معينة في تبني الأحكام. والذي حمل على تبني هذه الطريقة لتبني الأحكام ثلاثة أسباب:

أحدها: إن الحكم الذي يجـب أن يسـير عليه المسلم هو حكم شرعي، وليس حكماً عقلياً، أي هو حكم الله في المسألة، وليس الحكم الذي وضـعـه البشـر. ولذلك لا بـد أن يكـون الدليل الذي اسـتنبط منه هذا الحكم قد جاء به الوحي.

ثانيها: إثبات أن الدليل الذي استنبط منه الحكم قد جاء به الوحي لا بد أن يكون إثباتاً مقطوعاً به، أي لا بد أن يكون الدليل على أن الدليل الذي استنبط منه الحكم قد جاء به الوحي دليلاً قطعياً، لا دليلاً ظنياً؛ لأنه من الأصول وليس من الفروع، فلا يكفي فيه الظن. فهو من باب العقائد وليس من باب الأحكام الشرعية. وذلك أن المطلوب لاستنباط الحكم منه هو دليل جاء به الوحي، وليس مطلق دليل. فلا بد أن يثبت أنه جاء به الوحي، وإثبات أنه جاء به الوحي من العقيدة وليس من الأحكام الشرعية. ومن هنا كان لا بد أن يكون دليلاً قد ثبت أن الوحي جاء به بدليل قطعي؛ لأن العقائد لا تؤخذ إلا عن يقين.

ثالثها: إن من المقطوع به هو أن سلوك الإنسان في الحياة حسب مفاهيمه عنها، ووجهة النظر في الحياة مع كون أساسها هو العقيدة فهي تتكون من مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي في الأمة، وهذه الأفكار التي تتمثل في مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات ليست كلها من العقائد، بل منها ما هو من العقائد، ومنها ما هو من الأحكام الشرعية، ولما كانت الأحكام إنما تستنبط بناء على غلبة الظن، فإنه يخشى، إن لم يتأكد من أن أصل الأحكام قد جاء به الوحي، أن تتولد لدى الأمة أفكار غير إسلامية، بوجود أحكام مستنبطة من أصل لم يأت به الوحي، وهذا إذا تكاثر وامتد به الزمن يؤثر في وجهة نظر الأمة في الحياة، وبالتالي يؤثر في سلوكها؛ ولذلك لا بد من أن يتأكد من أن الأدلة التي قد استنبط منها الحكم الذي يراد تطبيقه من قبل الدولة هي أدلة قد جاء بها الوحي.

لهذه الأسباب الثلاثة كان لا بد من تبني طريقة تتبنى بحسبها الأحكام الشرعية. وأما أن هذه الأدلة الشرعية هي هذه الأربعة فحسب فذلك ثابت بالاستقراء. فإننا استقرينا الأدلة الشرعية التي ثبت بالدليل القطعي أنه قد جاء بها الوحي فلم نجد غير هذه الأدلة الأربعة مطلقاً.

أما القرآن، فإن الدليل على أنه قد جاء به الوحي من عند الله لفظاً ومعنى دليل قطعي، فإن إعجاز القرآن دليل قطعي على أنه كلام الله وليس كلام البشر، فالدليل القطعي قائم على أنه كلام الله، والقرآن الذي هو كلام الله قطعاً بدليل الإعجاز يقول إن الوحي قد نزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)) [الشعراء] وقال: ((وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ)) [الأنعام 19]، ((قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ)) [الأنبياء 45]، ((مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى)) طه، ((وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ)) [النمل 6]، ((نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ)) [الإنسان 23]، ((أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَناً عَرَبِيّاً)) [الشورى 7] فهذه أدلة قطعية على أن القرآن جاء به الوحي من عند الله.

وأما السنة، فالدليل القطعي على أن الوحي جاء بها من عند الله معنى والرسول صلى الله عليه وسلم عبر عنها بألفاظ من عنده هو ما جاء صريحاً في آيات القرآن الكريم قال تعالى: ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم]، ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)) [النساء 163]، ((إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)) [الأنعام 50]، ((قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ)) [الأعراف 203]، ((قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ)) [الأنبياء 45] وقال تعالى: ((وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر 7]. وهذه أدلة واضحة على أن ما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم من السنة إنما جاء به الوحي، وأدلة واضحة على أن الله أمرنا بصريح القرآن أن نأتمر بما أمرنا به صلى الله عليه وسلم، وأن ننتهي عما نهانا عنه، وهذا عام. فالدليل على كون السنة قد جاء بها الوحي دليل قطعي، لأنه ثابت بنص القرآن القطعي الثبوت القطعي الدلالة.

وأما إجماع الصحابة الذي يعتبر دليلاً شرعياً فهو إجماعهم على أن الحكم الفلاني هو حكم شرعي، أو إجماعهم على أن الحكم في الأمر الفلاني هو كذا. فإذا أجمعوا على أن حكماً ما هو حكم شرعي، فإن إجماعهم هذا يكون دليلاً شرعياً. والدليل على ذلك أمران: أحدهما أن الله أثنى عليهم في القرآن بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، قال تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [التوبة] فهذا الثناء من الله على المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان بالهجرة والنصرة إنما هو ثناء على الصحابة؛ لأن هؤلاء هم الصحابة ومدلول الآية محصور بهم. وهذا الثناء هو عليهم جميعاً، ومن يثني عليهم الله هذا الثناء يكون صدق ما يجمعون عليه أمراً مقطوعاً به. أما الأمر الثاني فإن هؤلاء الصحابة عنهم قد أخذنا ديننا، فهم الذين نقلوا إلينا أن هذا القرآن هو عينه الذي نزل على سيدنا محمد. فإذا تطرق الخلل إلى شيء واحد مما أجمعوا عليه تطرق الخلل إلى القرآن، أي تطرق الخلل إلى الدين الذي عنهم أخذناه، وذلك محال شرعاً. وعليه فإنه وإن كان لا يستحيل عليهم عقلاً أن يجمعوا على خطأ بل يجوز عليهم ذلك لأنهم بشر، ولكنه يستحيل عليهم شرعاً أن يجمعوا على خطأ، إذ لو جاز عليهم ذلك لجاز تطرق الخلل إلى الدين، أي لجاز تطرق الخلل إلى أن هذا القرآن هو عينه الذي نزل على سيدنا محمد، وذلك محال شرعاً، فكان محالاً عليهم أن يجمعوا على خطأ، وهذا دليل قطعي على أن إجماع الصحابة دليل شرعي. وأيضاً فإن الله تعالى يقول: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر] فالله قد وعد بحفظ القرآن، وهذا الذي نقله هو الذي حفظه، فهو دليل على صدق إجماعهم في نقل القرآن وجمعه؛ فيكون ذلك دليلاً على صحة إجماعهم، إذ لو جاز على إجماعهم الخطأ، لجاز الخطأ في نقل القرآن، ولجـاز أن لا يكون محفوظاً. وبما أن عدم حفظه مستحيل بدليل الآية، فتطرق الخطأ إلى إجماعهم بنقله وجمعه وحفظه مستحيل. ومن هنا كان إجماعهم حجة قطعية.

على أن الأمر المهم الذي يجب أن يكون واضحاً أن إجماع الصحابة على أن هذا الحكم حكم شرعي إنما يكشف عن دليل، يعني أن هناك دليلاً شرعياً من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أو قوله أو سكوته، وقد نقلوا الحكم ولم ينقلوا الدليل، فكان نقلهم للحكم كاشفاً عن أن هناك دليلاً على هذا الحكم، فليس معنى إجماعهم هو اتفاق آرائهم الشخصية على رأي واحد، فإن آراءهم ليست وحياً، وكل واحد منهم ليس معصوماً عن الخطأ؛ فلا يكون رأيه دليلاً شرعياً وكذلك لا يكون اتفاقهم على رأي دليلاً شرعياً؛ لأن الدليل الشرعي لا بد أن يكون قد جاء به الوحي حتى يعتبر شرعياً، وآراء الصحابة ليست كذلك فلا تعتبر دليلاً شرعياً، لا الآراء التي اختلفوا فيها ولا الآراء التي اتفقوا عليها؛ ولهذا ليس معنى إجماعهم هو اتفاقهم على رأي واحد، بل معنى إجماعهم هو إجماعهم على أن هذا الحكم حكم شرعي، أو أن حكم كذا هو كذا شرعاً، وحينئذ لا يكون رأياً لهم وإنما يكون إجماعاً على أنه من الشرع، ومن هنا كان إجماع الصحابة إنما يكشف عن دليل.

وأما القياس فهو دليل شرعي، وهو في اللغة التقدير، وفي اصطلاح الأصوليين هو حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما، فيشبه حكم معلوم بمعلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم، فهو مجـاوزة عن الأصـل إلى الفرع، أي إلحاق الفرع بالأصل. ومعنى حمل معلوم على معلوم مشاركة أحد المعلومين للآخر في حكمه. ومعنى أن يكون هذا الحمل في إثبات الحكم أو نفيه هو أن حمل الفرع على الأصل يعني التشريك في الحكم، فيثبت حكم الأصل للفرع، فيكون الفرع قد شارك الأصل في الحكم. وهذا الحكم الذي للأصل قد يكون إثباتاً، أخرج البخاري عن ابن عباس: «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً، اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ». فقاس دين الله على دين الآدمي بأن قضاءه يجزئه، فالحكم هنا إثبات وهو إجزاء قضاء الدين.. وقد يكون حكم الأصل المحمول عليه نفياً، مثل ما روي عن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قبلة الصائم، هل تفسد الصوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ، أَكَانَ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ؟ فَقَالَ: لاَ» صححه الحاكم ووافقه الذهبي، فقاس قبلة الصائم على المضمضة بأنها لا تفسد الصوم، فالحكم هنا نفي وهو عدم إفساد الصوم. ومعنى أن يكون هذا الحمل بناء على أمر جامع بينهما هو وجود علة الأصل في الفرع، فبناء على هذه العلة يحصل الحمل، وهي الأمر الجامع بين المقيس والمقيس عليه، أي بين الفرع والأصل، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بيع الرطب بالتمر: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: فَلاَ، إِذَنْ» أخرجه أبو يعلى بهذا اللفظ عن سعد بن أبي وقاص وصححه الحاكم وابن حبان. فإنه عليه الصلاة والسلام سأل عن العلة الموجودة في المال الربوي، وهي الزيادة، هل هي موجودة في بيع الرطب بالتمر، فحين علم بوجودها أثبت لهذا البيع حكم الربا فقال: «فَلاَ، إِذَنْ» أي لا يجوز بيعه ما دام ينقص، أي سأل عن الأمر الجامع وهو العلة الشرعية للربا.

هذا هو تعريف القياس شرعاً، وقد أخذ هذا التعريف من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباس: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكِ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ» أخرجه مسلم. وعن عبد الله بن الزبير قال: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ أَكَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاحْجُجْ عَنْهُ» أخرجه أحمد بسند صححه الزين، وأخرجه الدارمي كذلك.

ففي هذين الحديثين حمل الرسول صلى الله عليه وسلم دين الله في الصوم وفي الحج على دين الآدمي، وكلاهما حمل معلوم على معلوم، أي مشاركة دين الله لدين الآدمي في إثبات إجزاء قضائه عنه؛ لأن كلاً منهما دين. فالأمر الجامع بينهما أن كلاً منهما دين فهو العلة، والحكم الذي أثبت لهما هو إجزاء القضاء. هذا هو واقع القياس شرعاً المستنبط من النص الشرعي، فيكون هذا التعريف حكماً شرعياً يجب الأخذ به، ويكون حكم الله في حق من يستنبطه أو يقلده تقليد اتباع أو تقليد عامي كأي حكم شرعي مستنبط من دليل شرعي، إذ التعاريف والقواعد المستنبطة من الأدلة الشرعية هي أحكام شرعية كسائر الأحكام الشرعية.

وهذا القياس قائم على العلة، أي على الأمر الجامع بين المعلوم المحمول والمعلوم المحمول عليه، أي بين الفرع والأصل. فإذا وجدت هذه العلة، أي وجد الأمر الجامع بين المقيس والمقيس عليه وجد القياس، وإلا لا يوجد قياس مطلقاً. وهذه العلة إن كانت قد وردت في نص شرعي، أو قيست على ما ورد به نص شرعي، كان ذلك هو القياس الذي يعتبر دليلاً شرعياً؛ لأن العلة التي قام عليها قد ورد بها الشرع. وإن لم تكن هذه العلة قد وردت في نص شرعي، ولا قيست عما ورد به نص شرعي، فإن هذا القياس لا يعتبر قياساً شرعياً، فلا يكون دليلاً شرعياً؛ لأن العلة التي قام عليها لم يرد بها النص الشرعي، فلا يكون هذا القياس من الشرع وبالتالي لا يعتبر دليلاً شرعياً.

والدليل على أن هذا القياس دليل شرعي هو أن النص الشرعي الذي وردت به العلة، أو قيست على ما ورد به، إما أن يكون من الكتاب، أو من السنة، أو من إجماع الصحابة. وهذه الثلاثة قد ثبت كونها أدلة شرعية بالدليل القـطـعـي، فيكـون دليل العلة الشـرعـيـة دليلاً قطعياً، وذلك هو دليل القياس؛ لأن العلة الشـرعـية التي وجدت في الحكم الذي ورد به النص، وهو الأصل، هي التي جعلت الحكم في الفرع حكماً شرعياً، وهي التي جعلت القياس موجوداً، ولولاها لما وجد القياس أصلاً، فيكون دليلها هو دليل القياس.

وهذا القياس الشرعي قد أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم واعتبره دليلاً شرعياً، وسار على ذلك الصحابة، واتخذوه دليلاً شرعياً عند استنباطهم الأحكام الشرعية. فقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري وقد أنفذهما إلى اليمن: «بِمَ تَقْضِيَانِ؟ فَقَالاَ: إِنْ لَمْ نَجِدِ الحُكْمَ فِي الكِتَابِ وَلاَ السُّـنَّةِ قِسْنَا الأَمْرَ بِالأَمْرِ، فَمَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الـحَـقِّ عَمِلْنَا بِهِ» أورده الآمدي في الإحكام وأبو الحسين في المعتمد. فصرحا بالعمل بالقياس والنبي صلى الله عليه وسلم أقرهما عليه، فكان حجة على أن القياس دليل شرعي. وعن ابن عباس: «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً، اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» أخرجه البخاري، فالرسول صلى الله عليه وسلم هنا في مقام تعليم هذه المرأة قد ألحق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه، وهو عين القياس. وروي عن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قبلة الصـائم، هل تفسـد الصوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ، أَكَانَ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ؟ فَقَالَ: لاَ» صححه الحاكم ووافقه الذهبي، فالرسول صلى الله عليه وسلم نفى عن قبلة الصائم حكم إفساد الصوم قياساً على المضمضة من حيث كونها لا تفسد الصوم؛ لأن كلاً منهما لم تدخل الجوف. فهو تفهيم للحكم بالقياس. فهذه النصوص الثلاثة لم يجر فيها تعليل الحكم فحسب كما هو وارد في نصوص كثيرة مما يدل على القياس، بل جرى فيها إقرار القياس، وتعليم القياس، وتفهيم الحكم بالقياس، فهو حجة على أن القياس دليل شرعي.

هذا بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، أما بالنسبة للصحابة فقد روي عنهم اتخاذ القياس دليلاَ شرعياً في مسائل عدة، من ذلك ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه عن القاسم بن محمد، “أن رجلا مات وترك جدتيه أم أمه وأم أبيه فأتوا أبا بكر فأعطى أم أمه السدس وترك أم أبيه فقال له رجل من الأنصار: لقد ورثت امرأة لو كانت هي الميتة ما ورث منها شيئا وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث مالها كله فأشرك بينهما في السدس.” وقد ذكره أيضا الغزالي في المستصفى والآمدي في الإحكام. فقد قاسوا ميراث الحي من الميت على ميراث الميت من الحي لو كان الميت حياً والحي ميتاً بجامع أن القرابة بينهما في الحالين واحدة. ولما سمع أبو بكر هذا القياس خضع له وعمل به ورجع عن رأيه. ومن ذلك ما روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: “اعرف الأشباه والأمثال، ثم قس الأمور برأيك” ذكره الشيرازي في طبقات الفقهاء ورواه البيهقي في المعرفة من كتاب أدب القاضي، وكان عمر أمير المؤمنين، وكان أبو موسى قاضيه في هذه الحادثة. ومن ذلك أنه قيل لعمر إن سمرة قد أخذ الخمر من تجار اليهود في العشور وخللها وباعها، قال: “قاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ! أَمَا عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: لَعَنَ اللَّهُ اليهودَ، حُرِّمَتْ عليهِمُ الشُّحومُ فَجَمَلُوها وباعوها وأَكَلُوا ثَمَنَها” أخرجه مسلم، قاس الخمر على الشحم، وأن تحريمها تحريم لثمنها. ومن ذلك أن عمر كان يشك في قود القتيل الذي اشترك في قتله سبعة، فقال له علي: “يا أمير المؤمنين، أرأيت لو أن نفراً اشتركوا في سرقة، أكنت تقطعهم؟ قال: نعم. قال: فكذلك” ذكره عبد الرزاق في المصنف، وهو قياس للقتل على السرقة. وهذا كله يدل على أن القياس دليل شرعي بالسنة وإجماع الصحابة، فما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو السنة، وما ثبت عن الصحابة يعتبر إجماعاً سكوتياً؛ لأنهم فعلوه على مرأى ومسمع من الصحابة ولم ينكر عليهم أحد فكان إجماعاً. غير أن السنة وإجماع الصحابة قد رويت عن طريق خبر الآحاد فهي دليل ظني؛ ولذلك كان الدليل القطعي على أن القياس دليل شرعي هو ما قدمناه من أن علته قد وردت في النص الشرعي من الكتاب أو السنة أو إجماع الصحابة، وهذه الثلاثة قد ثبت كونها أدلة شرعية بالدليل القطعي فتكون هي دليل القياس، إذ هي دليل العلة الشرعية.

فهذه الأدلة الأربعة: الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، والقياس، ثبت أنه قد جاء بها الوحي من عند الله بالدليل القطعي، وما عداها لم يثبت بالدليل القطعي أنه جاء به الوحي من عند الله، بل لم يثبت أنها أدلة شرعية ثبوتاً منطبقاً على الدليل الذي جاؤوا به. أما كونها لم تثبت بالدليل القطعي فواضح، فإن من يستدلون بها لا يزعمون أن الدليل على كونها أدلة شرعية دليل قطعي. وأما كونه لم يثبت أنها أدلة شرعية فذلك ظاهر في عدم انطباق الأدلة التي أوردوها – باعتبارها أدلة شرعية – على الموضوع الذي أرادوا إقامة الدليل عليه. أي ظاهر في خطأ الاستدلال بما جاؤوا به من أدلة على أن ما زعموه من مثل إجماع المسلمين والمصالح المرسلة والاستحسان ونحوها هو من الأدلة الشرعية.

فمن قال إن إجماع المسلمين دليل شرعي استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ» قال ابن حجر حديث مشهور له طرق كثيرة لا يخلو واحد منها من مقال، وعلى كلٍّ، فليس في هذا دليل؛ لأن الضلالة هنا الارتداد عن الدين وليس الخطأ، وبهذا المعنى ورد الحديث «لَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّتِى عَلَى ضَلاَلَةٍ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ» رواه الطبراني بسند رجاله ثقات من طريق ابن عمر، وهو صحيح، فإن الأمة الإسلامية لا تجتمع على الارتداد عن الإسلام، ولكنها قد تجتمع على خطأ، وأبسط دليل على هذا هو أن الأمة الإسلامية قد أجمعت على ترك العمل لإقامة خليفة مدة كبيرة، وهو إجماع على خطأ.

وأما من قال إن جلب المصالح ودرء المفاسد علة شرعية للأحكام الشرعية وأجرى القياس بحسبها، فقد استدل بقوله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء] فجعل كونه رحمة علة للشريعة الإسلامية، ولا يكون رحمة إلا بجلب المصالح ودرء المفاسد، فكانتا العلة الشرعية للأحكام. وهذا الاستدلال خطأ من وجهين: الأول أن الموضوع هو إرساله، أي كونه رسولاً، وليس الأحكام الشرعية، ولو سلم أن المراد من إرساله رسالته، وهي شريعته، فإن الموضوع يكون الشريعة كلها من عقائد وأحكام بمجموعها وليس الأحكام الشرعية وحدها. الأمر الثاني أن كون إرساله عليه الصلاة السلام رحمة للعالمين إنما هو بيان للحكمة من إرساله، أي النتيجة التي تترتب على إرساله. وذلك مثل قوله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات]، أي لتكون نتيجة خلقهم العبادة، فهي حكمة خلقهم وليست علة خلقهم. ومثل قوله تعالى: ((لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)) [الحج 28] فهو الحكمة من الحج، أي النتيجة التي قد تحصل من الحج، وقوله: ((إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)) [العنكبوت 45] فهي الحكمة من الصلاة، أي النتيجة التي قد تحصل من الصلاة. وهكذا. فالآية هنا ليست في مقام التعليل. لأن العلة هي الشيء الذي من أجله وجد الحكم أي شرع، وحتى تفهم العلية في النص لا بد أن تكون وصفاً، وأن يكون هذا الوصف مفهماً العلية، بمعنى سببية التشريع، أي أن التشريع كان من أجلها، وحينئذ تكون لازمة لا تتخلف؛ لأن السبب ينتج المسبب حتماً؛ ولذلك إذا وجدت العلة وجد المعلول. وفي قوله: ((رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء 107] وبقية الآيات السابقة وإن كانت وصفاً، وفيها الحروف التي تفيد التعليل، ولكن سياق الكلام لا يفيد العلية؛ لأنه قد يتخلف، ولأن التشريع لم يكن من أجلها. فالشريعة الإسلامية قد تكون رحمة لمن آمن وعمل بها كالمسلمين الأولين، ونقمة لمن كفر بها كالكفار. فإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم قد كان نقمة على الكفار وهم من العالمين. وأيضاً فإن الرسالة الإسلامية موجودة اليوم، إذ الإرسال قد حصل بالفعل، ومع ذلك فإن المسلمين أنفسهم الذين آمنوا بالرسالة، ولكن لم يطبقوها قد أصبحوا في شقاء، فلم يكن مجرد الإرسال أي مجرد وجود الشريعة رحمة؛ ولذلك ليست علة للإرسال. وعليه لا يكون جلب المصالح ودرء المفاسد علة شرعية، فلا تتخذ أصلاً للقياس.

وأما الذين قالوا إن العقل من الأدلة الشرعية، فإن الكلام هو عن الحكم الشرعي، أي ما غلب على الظن أنه حكم الله، وهو لا يكون إلا مما جاء به الوحي، والعقل لم يأت به الوحي؛ ولذلك لا يوجد دليل لا ظني ولا قطعي على أن العقل من الأدلة الشرعية على الأحكام الشرعية، فلا يعتبر من الأدلة الشرعية مطلقاً.

وأما الذين قالوا إن مذهب الصحابي من الأدلة الشرعية، فقد استدلوا على ذلك بأن دليلي إجماع الصحابة هما دليلا الصحابي الواحد، فمدحه لهم مدح للواحد منهم، كما أنه إذا كان لا يتطرق الخلل إلى نقلهم جميعاً فهو لا يتطرق إلى نقل الواحد منهم، ثم إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهُمُ اقْـتَدَيْـتُمُ اهْـتَدَيْـتُمْ» أخرجه رزين يؤيد كون مذهب الصحابي دليلاً. وهذا الاستدلال خطأ، لأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة ليس وحده دليلاً على أن إجماع الصحابة دليل شرعي، ولا نقل الصحابة للقرآن وحده دليل على أن إجماعهم دليل شرعي، بل الدليل الشرعي هو الثناء عليهم وكونهم أجمعوا على أن هذا الحكم حكم شرعي، فالدليل هو أمران: الثناء والإجماع، وهذا لا يوجد في الصحابي الواحد. فإن الثناء ونقل القرآن لا يصلح دليلاً على أن كلام من نقل القرآن ممن أثنى الله عليه من الأدلة الشرعية؛ لأن الله كما أثنى على الصحابة أثنى على من تبعهم، ولأن نقل القرآن ولو ممن أثنى الله عليه لا يجعل كلام من نقله دليلاً شرعياً. وبذلك يسقط الاستدلال. ويدل على سقوط هذا الاستدلال أن ما ينقله الصحابي الواحد وما يرويه من أحاديث لا يعتبر قطعي الثبوت بل هو ظني. ولذلك لا تعتبر: “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة” من القرآن، مع أنه نقلها صحابي، إذ لم يحصل عليها إجماع الصحابة، وكذلك الأحاديث التي رواها الصحابة من خبر الآحاد لا تعتبر قطعية بل هي ظنية، وهذا بخلاف إجماع الصحابة فإن ما يجمعون عليه أنه من القرآن يعتبر قرآناً ويعتبر قطعياً، وما يجمعون عليه من الأحاديث ويروى عنهم بالتواتر يعتبر دليلاً قطعياً. ولذلك كان الفارق كبيراً بين ما يجمع عليه الصحابة فإنه لا خلاف بأنه قطعي يكفر منكره، وبين ما يرويه الصحابي الواحد بأنه ظني لا يكفر منكره؛ ولذلك كان إجماع الصحابة دليلاً شرعياً، وأما مذهب الصحابي الواحد فلا يعتبر من الأدلة الشرعية. وفوق هذا فإن الصحابي الواحد، الخطأ ممكن عليه، وهو ليس بمعصوم عن الخطأ، بخلاف إجماع الصحابة، فإن هذا الإجماع يستحيل عليه الخطأ. على أن الصحابة اختلفوا في مسائل وذهب كل واحد خلاف مذهب الآخر، فلو جعل مذهب الصحابي حجة لكانت حجج الله مختلفة متناقضة؛ وبذلك لا يعتبر مذهب الصحابي دليلاً شرعياً.

وأما الذين يقولون (شرع من قبلنا شرع لنا) فإنهم يستدلون بقوله  تعالى: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ)) [النساء 163] وقوله تعالى: ((شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً)) [الشورى 13] وقوله تعالى: ((ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)) [ [النحل 123] فهذه الآيات تدل على أننا مخاطبون بشرائع الأنبياء السابقين، وأيضاً فإن الأصل في الرسول صلى الله عليه وسلم أنه جاء ليبلغ عن الله ما يجب التقيد به. وعلى ذلك فكل حرف في القرآن، وكل عمل صدر عنه، أو قول نطق به، أو تقرير حصل منه، يجب التقيد به إلا ما ورد أنه خاص به أو بغيره، فكل ما ورد بالقرآن أو بالحديث نحن مطالبون به إلا ما جاء نص بأنه خاص بأصحاب الشرائع السابقة أو جاء نص بنسخه، وما لم يرد من ذلك شيء فنحن مطالبون به؛ فإن الله لم يذكرها عبثاً في القرآن فلا بد أن نكون مخاطبين بها. وهذا الاستدلال خطأ. أما بالنسبة للآيات، فإن المراد بالآية الأولى أنه أوحي إليه كما أوحى إلى غيره من النبيين. والمراد بالآية الثانية أنه شرع أصل التوحيد وهو ما وصى به نوحاً. والمراد من الآية الثالثة اتبع أصل التوحيد لأن الملة معناها أصل التوحيد. وكذلك جميع الآيات التي من هذا القبيل مثل قوله تعالى: ((فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)) [الأنعام 90] وغيرها. وأما قوله تعالى: ((إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ)) [المائدة 44] فإن الله عنى بهذا أنبياء بني إسرائيل لا محمداً عليه الصلاة السلام، والمسلمون ليس لهم إلا نبي واحد. وأما ما روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلاَّتٍ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» أخرجه مسلم، فإن معنى دينهم واحد يعني التوحيد الذي لم يختلفوا عليه أصلاً، ولا يعني أن ما بعثوا به من دين هو واحد عند الجميع بدليل قوله تعالى: ((لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)) [المائدة 48]. ومن هذا تبين أن هذه الأدلة لا تصلح للاستدلال، والاستدلال بها على أن شرع من قبلنا شرع لنا خطأ. على أن هناك أدلة تنهى عن اتباع شرع من قبلنا نهياً مطلقاً سواء جاء بالقرآن والحديث أم لا. قال الله  تعالى: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)) [آل عمران 85] وقـال تعالى: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)) [آل عمران 19] فإنه نص على أن كل دين غير دين الإسلام لا يقبل اعتناقه من أحد مطلقاً، فكيف يطلب من المسلمين أن يتبعوه؟. وقال تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)) [المائدة 48] وهيمنة القرآن على الكتب السابقة لا تعني التصديق بها، إذ قال في الآية نفسها: ((مُصَدِّقاً)) وإنما تعني ناسخاً لها. وأيضاً فقد انعقد الإجماع على أن الشريعة الإسلامية ناسخة لجميع الشرائع السابقة، وفوق هذا فإن الله تعالى يقول: ((أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [البقرة] فالله أخبرنا أنه لا يسألنا عما كان أولئك الأنبياء يعملون، وإذا كنا لا نسأل عن أعمالهم فلا نسأل عن شريعتهم؛ لأن تبليغها والعمل بها من أعمالهم، وما لا نسأل عنه فإننا غير مطالبين به وغير لازم لنا. وأيضاً فقد روي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ» أخرجه مسلم وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ» أخرجه مسلم فذكرهن وفيها: «وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً» فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن كل نبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم إنما بعث إلى قومه خاصة، فيكون غير قومه لم يبعث إليهم، ولم يلزموا بشريعة نبي غير نبيهم، فثبت بهذا أنه لم يبعث إلينا أحد من الأنبياء، فلا تكون شريعتهم شريعة لنا، ويؤيد هذا ما ورد صريحاً في آيات من القرآن: ((وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً)) [هود 61]، ((وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً)) [هود 50]، ((وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً)) [هود 84].

ومن هذا كله يتبين أن شرائع من قبلنا ليست شريعة لنا لثلاثة أسباب: أحدها أن الأدلة التي يستدلون بها إنما تدل على أصل التوحيد ولا تدل على أن جميع شرائع الأنبياء واحدة. والثاني أن النصوص وردت بالنهي عن كل شريعة غير شريعة الإسلام. والثالث أن كل نبي أرسل لقومه خاصة ونحن لسنا من قومه؛ فليس مرسلاً لنا فلسنا مخاطبين بشريعته ولا نلزم بها. وبذلك لا تعتبر شريعة من قبلنا من الأدلة الشرعية. هذا من حيث استدلالهم بالآيات، أما من حيث استدلالهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليبلغ عن الله ما يجب التقيد به، فإن هذا صحيح فيما بلغنا إياه عن الله مما يجب التقيد به وهو الشريعة التي جاء بها، ولكنه ليس صحيحاً فيما لم يأمرنا بالتقيد به. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغنا عن الله أحوال من قبلنا من الأمم السابقة، ولكنه بلغنا إياها للعبرة والعظة وليس للتقيد بشريعتهم. فقد قص علينا قصص الأنبياء وأخبارهم وأخبار الأمم، وبيّن لنا أحوالهم وما كانوا يتبعونه من أحكام، وذلك كله إنما كان للعبرة والعظة ليس غير، ولم يكن للتقيد بشريعتهم. أما من حيث القصص والأخبار فظاهر أنها جاءت للعظة والعبرة فلا تحتاج إلى برهان، وأما من حيث أحوال الأمم وما كانوا يتبعونه من أحكام فإنها وردت على سبيل الحكاية عنهم ولم ترد على وجه التقيد بها، فهي كالقصص جاءت لبيان أحوال الأنبياء السابقين والأمم السابقة. وفوق هذا فإن هذه الأحكام كثيراً ما تخالف الشريعة الإسلامية في تفاصيلها، فلو كنا مخاطبين بها لكنا مخاطبين بشريعتين مختلفتين وهذا غير جائز، فمثلاً من شرائع سليمان قول الله تعالى: ((وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)) [النمل] ولا خلاف عند المسلمين في سقوط عقاب الطير إن أفسدت، بل في سقوط عقاب جميع الحيوانات، وقد جاء النص على ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ» متفق عليه من طريق أبي هريرة قال في القاموس المحيط “الجبار كسحاب فناء الجبان وبالضم الهدر والباطل” فجناية البهائم غير مضمونة وكذلك الطير.

ومن شرائع موسى قوله تعالى: ((حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)) [الأنعام 146] وفي شريعة الإسلام قد أحل للمسلمين كل ذلك بنصوص كثيرة. ثم قال تعالى محلاً لبني إسرائيل بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ما سبق أن حرمه عليهم: ((وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ)) [المائدة 5] وهذه الشحوم من طعامنا فهي حل لهم.

ومن شريعة أهل زمان زكريا قول أم مريم: ((إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً)) [آل عمران 35] وهذا غير جائز في الإسلام أصلاً. ومن شريعة يعقوب: ((كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلّاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ)) [آل عمران 93] وفي الإسلام لا يحل أن يحرم على نفسه ما لم يحرمه الله عز وجل، قال تعالى: ((لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)) [التحريم 1] ومن شريعة الكتابيين في زمان أصحاب أهل الكهف: ((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً )) [الكهف] وهذا حرام في الإسلام، وعن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة، رضي الله عن أمهات المؤمنين، ذكرتا كنيسةً رأتاها في الحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه. ومن شريعة موسى: ((وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ))  [المائدة 45] ونحن لا نأخذ بهذا لأنا لم نؤمر به وإنما أمر به غيرنا، وإنما أوجب علينا الإسلام القود في كل هذا وفيما دونه بقوله تعالى: ((فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)) [البقرة 194] وبقوله تعالى: ((وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ)) [النحل 126] وبقوله تعالى: ((وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)) [الشورى 40] وأيضاً فإن قوله: ((والجروح قصاص)) هو خلاف القصاص في الإسلام. فالقصاص في الإسلام هو الأرش، وليس في التوراة قبول أرش وإنما الأرش في حكم الإسلام. والأرش هو الدية، فدية ما دون النفس يقال لها الأرش. وهكذا أحكام كثيرة في القصص التي رويت عن الأنبياء السابقين وعن الأمم السابقة وفي بيان أحوالهم وما كانوا يتبعونه من أحكام تخالف أحكام الإسلام. فكيف نكون مخاطبين بها؟! ولا يقال إن هذه الأحكام قد نسخت بأحكام الشريعة الإسلامية؛ لأنها وردت مطلقة، والأحكام التي جاءت لنا لم تأت ناسخة لأحكام من قبلنا وإنما جاءت شريعة لنا ولم تكن لها أية علاقة بتلك الأحكام، فالنسخ غير وارد والادعاء به زعم لا سند له، على أن النسخ هو إبطال الحكم المستفاد من نص سابق بنص لاحق كقوله عليه الصلاة والسلام: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا» أخرجه مسلم من طريق بريدة، وفي رواية الربيع في مسنده من طريق ابن عباس: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ، أَلاَ فَزُورُوهَا». فإبطال الحكم السابق بنص لاحق ورفعه هو النسخ، فالنسخ لا بد أن يكون الحكم المنسوخ قد سبق نزوله للحكم الناسخ وأن يكون في النص الناسخ دلالة على أنه ناسخ لذلك الحكم، وما عدا ذلك لا يعتبر نسخاً، فليس مجرد الاختلاف بين الحكمين أو التناقض بينهما يجعل أحدهما ناسخاً للآخر، بل لا بد من قرينة في النص الناسخ تدل على أنه ناسخ لحكم معين. فلا تكون هذه الأحكام الواردة عن الشرائع السابقة منسوخة بأحكام الإسلام التي تخالفها أو تناقضها، إذ لا يوجد ما يدل على ذلك، فضلاً عن عدم وجود أية علاقة بين أحكام الإسلام في التشريع وبينها، فهي منسوخة بنسخ شريعة الإسلام للشرائع السابقة، وليست منسوخة بأحكام خاصة بها جاءت ناسخة لها. وبهذا يتبين أن الاستدلال بكوننا مخاطبين بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومقيدين به استدلال باطل؛ لأنا مخاطبون بما جاءنا به من شريعة الإسلام ومقيدون به، ولسنا مخاطبين بما قصه علينا من قصص الأنبياء السابقين وأخبارهم، ولا بما بيّنه لنا من أحوال الأمم السابقة وما كانوا يتبعونه من أحكام. وبذلك يظهر بوضوح أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا. ويظهر بطلان اعتباره من الأدلة الشرعية. غير أنه إذا ورد في الأحكام التي هي من شريعة من قبلنا نص معها يدل على أننا مخاطبون بها؛ فحينئذ يصبح هذا الحكم الوارد في الكتاب أو السنة، والوارد فيه نص يدل على أننا مخاطبون به من شريعتنا، ويكون خطاب الشارع لنا فيه دالاً على أنه لنا؛ فيجب العمل به حينئذ. ولكن ليس لأنه شريعة من قبلنا، بل للخطاب الوارد في نفس الحكم من أنه لنا، أي لأن الله خاطبنا به وبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم لنا على أنه من الشريعة التي جاء بها، أي من أحكام الإسلام. وقد ظهر من تتبع الأحكام التي جاءت في الكتاب والسنة من الشرائع السابقة أن النص جاء دالاً على أننا مخاطبون بها، أي أنها من شريعتنا؛ قد جاء في ثلاثة أحوال:

أحدها: إذا كانت الآية التي جاء فيها الحكم قد صدرت بتوجيه الخطاب لنا مثل آية الكنز قال تعالى:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )) [التوبة] فالله تعالى قد خاطبنا بهذه الآية، فما جاء فيها هو شريعة لنا؛ ولذلك كان الكنز حراماً في شريعتنا، ولو جاءت الآية التي تحرمه جزءاً من آية بيان حال الأحبار والرهبان.

ثانيها: إذا كانت الآية التي جاء فيها الحكم قد أتت بلفظ يدل على العموم مثل آيات الحكم بغير ما أنزل الله قال تعالى:((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) [المائدة 44] فإن لفظ “من” يدل على العموم وهذا يعني أنه يشملنا فنحن مخاطبون به. ومثلها: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [المائدة 45] وكذلك: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) [المائدة 47].

ثالثها: أن تعقب الآيات بما يلفت نظرنا إلى الأحكام التي فيها، وذلك مثل آيات القصص التي ذكرت عن قارون، قال الله تعالى: ((إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)) [القصص 76] الآيات إلى قوله: ((وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ )) [القصص] فقد عـقـب عليها بعد هذه الآية  مباشرة  بقوله: ((تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا)) [القصص] وسارت الآيات مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فهذا لفت نظر للأحكام التي جاءت إذ قالت: ((لا يريدون علواً في الأرض)) وكانت الأحكام عن قارون الذي أراد علواً في الأرض، مما يدل على أننا مخاطبون بهذه الأحكام.

ففي هذه الأحوال الثلاث، تعتبر الأحكام التي جاءت أحكاماً من الشريعة الإسلامية؛ لأن هناك ما يدل على أننا مخاطبون بها، ونأخذها بوصفها أحكاماً من الشريعة الإسلامية وليس بوصفها شريعة لمن قبلنا. فإن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا.

وأما الذين قالـوا إن الاستحسان من الأدلة الشرعية، فإنهم لم يستطيعوا الإتيان له بدليل من الشرع حتى ولا دليل ظني. وقد فسر الاستحسان عند من يقول به دليلاً شرعياً بأنه دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على إظهاره لعدم مساعدة العبارة عنه. وفسر أيضاً بأنه ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه يكون كالطارئ على الأول.

وفسر كذلك بأنه العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى يقتضي هذا العدول. وفسر أيضاً بأنه قطع المسألة عن نظائرها. وقسموا الاستحسان إلى قسمين: أحدهما الاستحسان القياسي، والثاني استحسان الضرورة. أما الاستحسان القياسي فهو أن يعدل بالمسألة عن حكم القياس الظاهر المتبادر فيها إلى حكم مغاير بقياس آخر هو أدق وأخفى، لكنه أقوى حجة وأسد نظراً وأصح استنتاجاً. مثال ذلك لو اشترى شخص سيارة من اثنين في صفقة واحدة ديناً لهما، فقبض أحد الدائنين قسماً من هذا الدين فإنه لا يحق له الاختصاص به، بل لشريكه في الدين أن يطالبه بحصته من المقبوض، لأنه قبضه من ثمن مبيع مشترك بيع صفقة واحدة، يعني أن قبض أي من الشريكين من ثمن المبيع المشترك بينهما هو قبض للشريكين، أي قبض للشركة وليس لأحدهما أن يختص به. فإذا هلك هذا المقبوض في يد القابض قبل أن يأخذ الشريك الثاني حصته منه، فإن مقتضى القياس أن يهلك من حساب الاثنين أي من حساب الشركة، ولكن في الاستحسان يعتبر هالكاً من حصة القابض فقط، ولا يحسب الهالك على الشريك الثاني استحساناً؛ لأنه في الأصل لم يكن ملزماً بمشاركة القابض، بل له أن يترك المقبوض للقابض ويلاحق المدين بحصته. وهكذا باقي الأمثلة. هذا هو الاستحسان القياسي.

وأما استحسان الضرورة فهو ما خولف فيه حكم القياس نظراً إلى ضرورة موجبة أو مصلحة مقتضية سداً للحاجة أو دفعاً للحرج، وذلك عندما يكون الحكم القياسي مؤدياً لحرج أو مشكلة في بعض المسائل، فيعدل حينئذ عنه استحساناً إلى حكم آخر يزول به الحرج وتندفع به المشكلة. مثال ذلك الأجير، فإنه تعتبر يده على ما استؤجر له يد أمانة، فلا يضمن إذا تلف عنده من غير تعد منه. فلو استؤجر شخص ليخيط لآخر ثياباً في منزله مدة شهر فهو أجير خاص، فإذا تلفت الثياب في يده من غير تعد منه لم يضمن لأن يده يد أمانة. ولو استؤجر شخص ليخيط في دكانه ثوباً لآخر وكان يخيط الثياب لجميع الناس فهو أجير عام، فإذا تلف الثوب في يده من غير تعد منه لا يضمن لأن يده كذلك يد أمانة. ولكن في الاستحسان لا يضمن الأجير الخاص ويضمن الأجير العام؛ كي لا يقبل أعمالاً أكثر من طاقته فيتلف أموال الناس.

هذه خلاصة الاستحسان وهذه أدلتهم له، وظاهر فيها أنها ليست أدلة، وإنما هي مجرد تعليلات عقلية، فلا هي من الكتاب، ولا من السنة، فهي لم ترق إلى أن تكون أدلة ظنية فضلاً عن كونها أدلة قطعية على أن الاستحسان من الأدلة الشرعية. هذا من جهة، ومن جهة ما أتوا به من التعليلات العقلية فهي أيضاً باطلة. أما بالنسبة لتفسيرات الاستحسان فإنها كلها باطلة. أما التفسير الأول، فلأن الدليل الذي انقدح في ذهن المجتهد ولا يدري ما هو لا يجوز أن يعتبر دليلاً ما دام لا يعرف ما هو، فإن عدم القدرة على إظهاره دليل على عدم بلورته لديه وعلى عدم درايته به فلا يصح أن يكون من الأدلة الشرعية. وأما التفسيرات الباقية، فإن معناها واحد وهو العدول بالمسألة عن نظائرها إلى وجه أقوى، أي العدول عن القياس لدليل أقوى. وهذه التفسيرات إن كان يراد من الدليل الأقوى نص من كتاب أو سنة فهذا ليس استحساناً وإنما هو ترجيح للنص، فهو استدلال بالنص، فيكون استدلالاً بالكتاب أو السنة ولا يكون استدلالاً بالاستحسان. وإن كان الدليل الأقوى هو العقل بما يراه من مصلحة وهو ما قصدوه فهو باطل؛ لأن القياس مبني على علة شرعية ثابتة بالنص، وهو خطاب الشارع لنا. والعقل والمصلحة ليسا نصاً ولا علة أخرى أقوى منه، بل لا علاقة للعقل ولا للمصلحة بالنص الشرعي، أي بما جاء به الوحي؛ ولذلك كان هذا العدول باطلاً. هذا من ناحية التفسيرات، أما من ناحية أقسام الاستحسان، فإن الاستحسان القياسي يظهر بطلانه من بطلان التفسيرات الثانية وهي العدول بالمسألة عن نظائرها، وأيضاً فإن اعتبارهم له أنه قياس خفي باطل؛ لأنه لا علاقة له بالقياس، وإنما هو تعليل مصلحي. فمثال ثمن المبيع المشترك بيع صفقة واحدة لا يصح أن يختلف فيه الحكم في هلاك المال الذي قبضه أحد الشريكين بأنه هلاك من مال الشركة عن قبض أحد الشريكين للمال بأنه قبض للشركة؛ لأن المال سواء أكان السيارة المبيعة أم ثمنها، مـال الشـركة وليس مـال أحـد الشريكين، فهلاكه هلاك لمال الشركة كما أن قبضه قبض لمال الشركة. فهذا العدول المصلحي لا محل له وهو مخالف للشرع.

وأما استحسان الضرورة فبطلانه ظاهر بأنه يحكم فيه العقل وما يراه من مصلحة وليس النص الشرعي، ويرجح على العلة المأخوذة من النص الشرعي، أي يرجح على معقول النص الشرعي. وهذا كله باطل ولا كلام. ثم إن جعل الأجير المشترك يضمن والأجير الخاص لا يضمن ترجيح بلا مرجح ومخالفة للنص الشرعي. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول في ما أخرجه البيهقي في سننه الكبرى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثُمَّ لاَ ضَمَانَ عَلَى مُؤْتَمَنٍ»، وكذلك أخرج البيهقي في سننه الكبرى عن القاسم بن عبد الرحمن أن علياً وابن مسعود رضي الله عنهما قالا (ليس على مؤتَمَن ضمان) وأخرج كذلك في سننه عن جابر أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قضى في وديعة كانت في جراب فضاعت من خرق الجراب أن لا ضمان فيها. فلا ضمان على من كان أميناً على عين من الأعيان مطلقاً؛ لأن تعبير الحديث بلا النافية للجنس “لا ضَمانَ” يدل على العموم، فيشمل كل مؤتمن، سواء أكان أجيراً خاصاً أم أجيراً عاماً.

وبهذا يظهر أن الاستحسان ليس من الأدلة الشرعية. ولا يصح أن يعتبر من الأدلة الشرعية؛ لأنه لم يأت دليل يدل على أنه من الأدلة، لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من إجماع الصحابة، لا دليل ظني، ولا دليل قطعي، فضلاً عن سقوط ما استدلوا به له من الاستدلال العقلي، وفضلاً عن مخالفة بعض أمثلته لنصوص الشرع.

وأما الذين يقولون بأن المصالح المرسلة من الأدلة الشرعية فإنهم كذلك لم يستطيعوا أن يأتوا لها بدليل شرعي. ولكنهم لما عللوا الشريعة كلها بأنها لجلب المصالح ودرء المفاسد عللوا كذلك كل حكم من الأحكام الشرعية بأنه لجلب المصلحة ودرء المفسدة. إلا أن بعضهم اشترط أن يكون قد ورد في الشرع نص على اعتبارها بعينها مصلحة أو نص على اعتبارها بنوعها مصلحة، ولكن بعضهم لم يشترط ذلك، بل اعتبر المصلحة دليلاً شرعياً ولو لم يرد نص من الشرع باعتبارها بعينها أو بنوعها؛ لأنها تدخل في عموم المصالح التي تجتلب بها المنافع وتجتنب المضار. وقد عرفوا المصالح المرسلة بأنها كل مصلحة لم يرد في الشرع نص على اعتبارها بعينها أو بنوعها. فإن معنى مرسلة هو أنها مرسلة من الدليل. وقالوا إذا كانت المصلحة قد جاء بها نص خاص بعينها كتعليم القراءة والكتابة، أو كانت مما جاء نص عام في نوعها يشهد لها بالاعتبار كالأمر بكل أنواع المعروف والنهي عن جميع فنون المنكر، فإنها في هاتين الحالتين لا تعتبر من المصالح المرسلة، بل المصالح المرسلة هي المرسلة من الدليل، أي هي التي لا يوجد دليل عليها، بل هي مأخوذة من عموم كون الشريعة جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد. إلا أنه يفرق بين المصالح الشرعية وغير الشرعية، فالمصالح الشرعية هي التي تتفق مع مقاصد الشريعة، والمصالح غير الشرعية هي التي تتنافى مع مقاصد الشريعة، فالمصالح المرسلة المعتبرة دليلاً شرعياً هي التي تتفق مع مقاصد الشريعة، وأما إذا كانت تتنافى مع مقاصد الشريعة فلا تعتبر من المصالح المرسلة وبالتالي لا تكون دليلاً شرعياً. فالمصالح المرسلة هي التي دلت على اعتبارها نصوص الشريعة بوجه كلي، فتبنى على أساسها الأحكام الشرعية الجزئية عند فقدان النص الشرعي في الحادثة أو فيما يشابهها، فتكون المصلحة هي الدليل الشرعي.

هذه خلاصة المصالح المرسلة وهي باطلة من وجهين:

أحدهما: إن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة متعلقة بفعل معين للعبد، فهي الدليل الشرعي على حكم الشرع في هذا الفعل، وهي ليست متعلقة  بالمصلحة، ولا  جـاءت دليلاً على المصـلحـة. فالله تعالى حين يقول: ((فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)) [البقرة 283] وحين يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ))  [البقرة 282]  وحـين  يـقـول: ((وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ)) [البقرة 282] إنما يبين حكم الرهن وحكم كتابة الدين وحكم الشهادة عند البيع، ولم يبين أن هذه مصلحة أو ليست بمصلحة، لا صراحة ولا دلالة، ولا يؤدي النص على أن هذا الحكم مصلحة أو ليس بمصلحة لا من قريب ولا من بعيد ولا بوجه من الوجوه، فمن أين يقال إن هذه مصالح دل عليها الشرع حتى تعتبر هذه مصلحة؟ وبالتالي تعتبر دليلاَ شرعياً؟! وأيضاً فإن العلل الشرعية جاءت كالنصوص الشرعية متعلقة بفعل العبد ودليلاً على علامة حكم الشرع في هذا الفعل، ولم تأت لتبين المصلحة ولا لتبين علامة المصلحة. فالله تعالى حين يقول: ((كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)) [الحشر 7] وحين يقول: ((لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ)) [الأحزاب 37]  وحين  يقول: ((وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ)) [التوبة 60] إنما يبين علة توزيع المال على الفقراء دون الأغنياء بأنها لمنع تداول المال بين الأغنياء، ويبين علة تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بزينب بأنها لبيان إباحة تزوج امرأة الشخص المتبنى، ويبين علة إعطاء المؤلفة قلوبهم بأنها حاجة الدولة لتأليف قلوبهم. فلم يبين أن هذه مصلحة، وإنما يبين شيئاً معيناً هو علة لحكم معين، دون أي اعتبار للمصلحة وعدم المصلحة، بل دون أي نظر إليها لا من قريب ولا من بعيد، فمن أين يقال إن هذه العلل دل عليها الشرع حتى تعتبر هذه المصالح دليلاَ شرعياً؟. وإذا كان الشرع لم تدل نصوصه على أنها جاءت لمصلحة، لا في دلالتها على الحكم، ولا في دلالتها على علة الحكم؛ فلا يجوز أن يقال إن النصوص دلت على مصالح بعينها أو على مصالح بنوعها، لأن ذلك لم يأت شيء منه في النصوص الشرعية مطلقاً. وبهذا يظهر بطلان أن النصوص الشرعية جاءت دليلاً على مصالح بعينها أو على مصالح بنوعها؛ فلا تعتبر هذه المصالح دليلاً شرعياً. وإذا كان هذا فيما يقولون إنه مصالح ورد نص من الشرع باعتبارها بعينها أو بنوعها، فمن باب أولى أن لا تعتبر المصالح التي لم يرد نص في الشرع يدل عليها من الأدلة الشرعية.

ثانيها: إن المصالح المرسلة اشترطوا فيها حتى تكون مرسلة أن لا يرد نص في الشرع يدل على اعتبارها لا بعينها ولا بنوعها، فيكون اشتراطهم هو أن لا يكون لها دليل معين من الشرع، وإنما تفهم من مقاصد الشريعة، وهذا وحده كاف لإسقاطها من اعتبار الشرع؛ لأن عدم ورود دليل يدل عليها كاف لردها؛ لأن الحكم المراد أخذه هو حكم الشرع لا حكم العقل، فلا بد لاعتباره أنه من الشرع أن يرد دليل يدل عليه مما جاء به الوحي، أي من الكتاب أو السنة، فاشتراط أن لا يدل عليه نص من الشرع كاف لنفي الشرعية عنه.

وأما كون هذه المصالح المرسلة تفهم من مقاصد الشريعة، فإن مقاصد الشريعة ليست نصاً يفهم حتى يعتبر ما يفهم منها دليلاً، فلا قيمة لما يفهم منها في الاستدلال على الحكم الشرعي. ثم إن ما يسمى بمقاصد الشريعة، إن أريد به ما دلت عليه النصوص مثل تحريم الزنا وتحريم السرقة وتحريم قتل النفس وتحريم الخمر وتحريم الارتداد عن الإسلام، فإنه ليس مقصداً للشريعة وإنما هو حكم لأفعال العباد، فيوقف فيه عند مدلول النص، فلا محل لاعتبار هذا الحكم الذي فهم من النص دليلاً شرعياً بل هو حكم شرعي، ومن باب أولى أنه لا اعتبار لما يتخيله الذهن منه بأنه مقصد الشريعة من هذا الحكم بأنه من الأدلة الشرعية. فكيف الحال باعتبار ما يفهم من هذا الذي تخيله الذهن بأنه مقصد الشريعة دليلاً شرعياً؟!! وعليه فإن اعتبار ما يفهم من مقاصد الشريعة دليلاً شرعياً باطل كل البطلان. وأما إن أريد به ما يفهم من حكمة الشريعة كلها، أي حكمة إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم من كونه رحمة للعباد، فإنه حكمة وليس علة، والحكمة قد تحصل وقد لا تحصل، فلا تتخذ أصلاً يستدل به لإمكانية تخلفها، فمن باب أولى أن لا يتخذ ما يفهم منها أصلاً يستدل به. ولهذا لا يصلح ما يسمى بمقاصد الشريعة لأن يكون ما يفهم منها من الأدلة الشرعية. فيكون من هذه الناحية أيضاً اعتبار ما يفهم من مقاصد الشريعة دليلاً شرعياً باطلاً كل البطلان؛ وبهذا يظهر بطلان اعتبار المصالح المرسلة من الأدلة الشرعية.

هـذا مـن حـيـث الأسباب التي جعلتهم يعتبرون المصالح المرسلة دليلاً شرعياً، أما من حيث الدليل الشرعي على أنها من الأدلة الشـرعـيـة، فإنه لا يوجد لهم أي دليل شرعي على ذلك مطلقاً، لا من الكتاب، ولا من السنة، لا دليل قطعي، ولا دليل ظني؛ ولهذا لا يصح اعتبار المصالح المرسلة من الأدلة الشرعية.

ومن هذا كله يظهر بوضوح أن الأدلة التي ثبت أنه قد جاء بها الوحي من عند الله بالدليل القطعي إنما هي الأدلة الأربعة فقط، وهي: الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، والقياس الذي علته شرعية، وما عداها لم يأت دليل قطعي يدل عليها. وبذلك يظهر أن الأدلة الشرعية إنما هي هذه الأربعة ليس غير.

غير أنه يجب أن يكون واضحاً أن الأحكام المستنبطة من الأدلة الأخرى غير الأربعة مما اعتبره إمام من الأئمة هي أحكام شرعية في نظر القائلين بها وفي نظر مخالفيهم، لأن هناك شبهة الدليل على أنها من الأدلة. فمن اعتبر إجماع الأمة دليلاً شرعياً واستنبط منه حكماً كان هذا الحكم حكماً شرعياً في نظره وحكماً شرعياً في حقه لا يحل له أن يأخذ غيره، وكان كذلك حكماً شرعياً في نظر مخالفيه ولكنه ليس حكماً شرعياً في حقهم. ومثل ذلك شرع من قبلنا شرع لنا، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والعقل. فإن كل حكم يستنبط من أي منها يعتبر حكماً شرعياً في نظر من يقولون بأن ما استنبط منه الحكم هو من الأدلة الشرعية وفي نظر جميع مخالفيه. سوى أنه يكون حكماً شرعياً في حقه ولا يكون حكماً شرعياً في حق مخالفيه، وذلك كالأحكام المستنبطة من النصوص، فإن اختلاف الفهم للنص لا يجعل الحكم المستنبط شرعياً في حق من استنبطه وغير شرعي في حق من خالفه في هذا الفهم. بل هو حكم شرعي في نظر جميع المسلمين ما دام النص يمكن أن يفهم منه هذا الفهم، أي ما دامت شبهة الدليل موجودة. سوى أنه لا يعتبر حكماً شرعياً في حق جميع المسلمين، بل في حق من استنبطه ومن قلده لا في حق من خالفه، ولكنه على أي حال حكم شرعي. وكذلك الحكم الذي يستنبط من دليل هو كالحكم المستنبط من النص حكم شرعي في نظر جميع المسلمين، سواء من اعتبره دليلاً شرعياً أو من لا يعتبره دليلاً شرعياً، ما دامت توجد هناك شبهة الدليل، كالأدلة السابقة التي أبطلنا اعتبارها من الأدلة الشرعية.

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة