عندما عزم المسلمون في زمن الخلافة الرّاشدة ليعتمدوا تقويمًا خاصًا بهم، بحثوا عن يومهم الأعظم باعتبارهم أُمّة، لِيُنسب التقويم إليه ويكون فيه بدء عدّ السنين..! فتجادل القوم فيما بينهم، بحثًا عن ذلك اليوم وعن تلك المناسبة، لا سيّما أنّ الأحداث العظيمة كانت كثيرة، فمن يوم ميلاد المصطفى إلى يوم بعثته، إلى يوم إسرائه ومعراجه وفرض الصلاة، إلى يوم انشقاق القمر، إلى يوم إسلام حمزة، إلى يوم إسلام عمر وما تلاه من جهرٍ بكتلة النبيّ، إلى يوم هجرته ﷺ، إلى يوم بدر، إلى يوم الخندق وإلى يوم فتح مكة!!! أحداثٌ عظيمة ولها عظيم الأثر على هذه الأمّة وهذا الكيان.
ولكن جاء القول الحكيم من الفاروق عمر الذي أعزّ الله الإسلام به بدعاء الحبيب – عليه صلوات ربي وسلامه- له، عمر الذي جاء على لسانه ما نزل به الوحي ووافق فِعله وحكمه حُكم السماء من الفرقان، فكان خِيار عمر الخليفة الراشد وأمير المؤمنين وبه أقرّ الصّحابة بأنّ يوم هجرة نبيّكم هي أعظم الأيام! ففيه كانت النصرة، ولعظمته جمعت قريش الجموع والفتية لمنعِ حُدوثه لما تعلم من عظيم شأنه، فتآمرت على قتله ﷺ وهو في فراشه ومن ثم أرسلت فرسانها لِلَحاقِ به… فلذلك اليوم عمل القائد الأول في مكة ثلاث عشرة سنة، ولأجله ذهب مُعلمنا السياسيّ الأبرع – عليه صلوات ربي وسلامه – لزعماء القبائل وأُدميت قدماه الطاهرتان الشريفتان في الطائف، وللوصول إليه ابتعث مُصعب للمدينة وكانت بيعة العقبة الأولى – بيعة النساء – ومن ثم بيعة العقبة الثانية – بيعة الحرب -، وعندما تمّت الهجرة كان قيام الدين وإعلان الأمّة واستقرار الرياسة ورُدّ للشرع السيادة.
نعم إنّ يوم تقويمكم بدأ من تاريخ هجرة نبيّكم، هل تعلمون لماذا!؟
لأنّ بهجرته أُقيمت دولة عظيمة في مبدئها وفي رِجالها وفي حُكمها…!! إنّها الدّولة الإسلامية \”دولة الخلافة\” فيما بعد رسولكم، الدّولة الجامعة لأُمّتكم ومُحققة لوحدة كيانها التنفيذي! بالخلافة كُنّا أُمّةً واحدةً، بلادنا منبت العلماء والفروسية والعظماء، وإليها تتزاحم أقدام طلاّب العلم من كل حدب وصوب وكل دين وعرق وأرض! تحت ظلال رايتها كانت الرّحمة وكان الخير حتى للطير في سمائها، ولها مع الطير جولات في الكرم والعطاء…!!
دولة الخلافة كانت عظيمة الشأن، رحيمة الحكم، عفيفة الرجال، سيّدة القرار، حازمة الفِعال، حكمت فيها من أُمّتكم أحزاب وأعراق، فمن الراشدين الأربعة إلى الأمويين وفيهم عمر بن عبد العزيز، إلى العباسيين وفيهم الرّشيد الذي خاطب الغمام والمعتصم الذي ما زلنا نبحث عن نخوته! إلى وُلاتهم من صقر قريش عبد الرحمن الدّاخل إلى صلاح الدين قاهر الصليبيين، إلى يوسف بن تاشفين وحُكم المرابطين!! ومن ثم وبمزيد اختصار إلى بني عثمان الخلفاء الكرام الذين قال فيهم نبيّكم مادحًا جيشهم وأميرهم الفاتح «تفتح القسطنطينية فنعم الجيش جيشها ونعم الأمير أميرها»، وُصولًا إلى عبد الحميد الذي ترك لمن بعده من أبناء هذه الأمة كلمات حارقة، بل صواريخ مُسعّرة لحرب يهود وكلّ معتدٍ حتى تحرير كلّ فلسطين وكلّ بلادنا المغتصبة – وما كانت فلسطين مغتصبة -!! \”إنّ عَمل المِبضع في جسدي أهون عليَّ من تسليم شبرٍ من فلسطين ليهود\”!! وحتّى آخر أيامها كانت إنجازاتها عظيمة في خدمة هذه الأمّة وليس آخرها سِكّة حديد الحجاز التي هي تجسيد لربط الاتصال وتسهيله بين كامل أرض دولة الخلافة؛ من الحجاز إلى الشام إلى العراق إلى الأناضول، وُصولا فيما بعد حتى المغرب وغير المغرب!! ولكنّ يد الغدر والحقد والكره كانت إلى خلافتنا مشيرة.
في الثامن والعشرين من رجب عام ألف وثلاثمائة واثنين وأربعين الهجري الموافق للثالث من آذار مارس عام ألف وتسعمائة وأربعة وعشرين الميلادي كان يوم الفجيعة الفاجعة لهذه الأمّة بإعلان اليهودي عميل الإنجليز مصطفى كمال إلغاء الخلافة عن وجه الأرض بهدم الخلافة العثمانية في اسطنبول.
كان هذا تتويجاً لحروبٍ وحروب، وحملات إجرام وتدمير، ومؤامرات ومكائد، من الحروب الصليبية إلى حروب الاستعمار والاقتطاع من بلاد المسلمين المنهكة بالمؤامرات الداخلية ممن جعل نفسه مطية للغرب يركبونه حتى يحققوا مبتغاهم! فتارةً تأتي الطعنات من الدولة الصفويّة الفارسية، وتارة تأتي من قرنيْ الشيطان في نجد، وتارة من دُعاة الغدر والقوميّات، وتارة ممّن ادّعى تجديد الدّين كالأفغاني وعبده!! كان هدم الخلافة هو ما توج به عمل الحملات التبشيرية ورأس أمر عمل المستشرقين!!!
هذه الذكرى الأليمة والحادثة الأفجع والفاجعة الكبرى في تاريخ هذه الأمّة رثاها الشعراء وندبها العُلماء وحمل السلاح في وجه مصطفى كمال لأجلها الشرفاء، غُيّبت عن الذاكرة في الإعلام ومناهج التدريس عن سبق إصرارٍ وترصد، في حين جعلوا لكل رذيلةٍ ومنكرٍ يوماً ولذكرى كلّ مجرم عيداً!!!
نُذكّر أُمّتنا بهذه الفاجعة ليس احتفالاً بها، بل تحريضًا لها للسعيِ لردّ سُلطانها المغصوب ودينها المُعطّل وعِزّها السليب ومجدها التليد! نُذكّر أُمّتنا بهذه الفاجعة بيوم ذكراها بالتقويم الهجري والميلادي والفارسي والقبطي وحتى السنسكريتي!!! نُذكّرهم بها ليلًا ونهارًا، ونقول لهم قوموا إلى ما قام له محمدٌ عليه صلوات ربي وسلامه وأعيدوا دولة أقامها معه مهاجرون وأنصار.
ونختم مقالنا بأبيات من رثاء أمير الشعراء لخلافتنا يوم هدْمِها، وكأنها العروس المغدورة في يوم عرسها.
عادَت أَغاني العُرسِ رَجعَ نُواحِ = وَنُعيتِ بَينَ مَعالِمِ الأَفراحِ
كُفِّنتِ في لَيلِ الزَفافِ بِثَوبِهِ = وَدُفِنتِ عِندَ تَبَلُّجِ الإِصباحِ
ضَجَّت عَلَيكِ مَآذِنٌ وَمَنابِرٌ = وَبَكَت عَلَيكِ مَمالِكٌ وَنَواحِ
الهِندُ والِهَةٌ وَمِصرُ حَزينَةٌ = تَبكي عَلَيكِ بِمَدمَعٍ سَحّاحِ
وَالشامُ تَسأَلُ وَالعِراقُ وَفارِسٌ = أَمَحا مِنَ الأَرضِ الخِلافَةَ ماحِ
فَلتَسمَعُنَّ بِكُلِّ أَرضٍ داعِيًا = يَدعو إِلى الكَذّابِ أَو لِسَجاحِ
وَلتَشهَدُنَّ بِكُلِّ أَرضٍ فِتنَةً = فيها يُباعُ الدينُ بَيعَ سَماحِ
يُفتى عَلى ذَهَبِ المُعِزِّ وَسَيفِهِ = وَهَوى النُفوسِ وَحِقدِها المِلحاحِ