الأحد، 14 جمادى الآخرة 1446هـ | 15 ديسمبر 2024م | الساعة الآن: 21:11:46
(ت.م.م)
سؤال وجواب: المشاركة في الحكم
سؤال وجواب؟
السؤال:
هناك كراسة يتداولها أعضاء حركة إسلامية، عنوان الكراسة هو: «المشاركة في الحكم». وفيها أن الأصل عدم جواز المشاركة في الوزارة التي تحكم بشريعة غير شريعة الله تعالى. ولكن يجوز المشاركة استثناء من الأصل استدلالاً بالأدلة التالية.
أ- مشاركة يوسف عليه السلام في الوزارة.
ب- موقف النجاشي.
جـ- المصلحة.
ونحن سؤالنا هنا عن مدى صحة الاستدلال بعمل النبي يوسف عليه السلام وبعمل النجاشي، ولسنا نسأل عن الاستدلال بالمصلحة؟
الجواب:
لقد اطّلعنا على الكراسة المذكورة أعلاه وعلى كثير من أمثالها. ويوجد بين المسلمين تيار يحكّم العقل، فما يراه العقل حَسَناً ومصلحة يصبح مشروعاً ولو خالف النصوص الصريحة، وما يراه العقل قبيحاً أو ضرراً يصبح ممنوعاً ولو كان مشروعاً في النصوص الصريحة. والذي زاد هؤلاء جرأة على الدين هو تأثرهم بالثقافة الغربية. فقد أفتوا بإباحة الربا بحجة مسايرة العصر والمصلحة مع أن تحريمه وارد في النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة. وأفتوا بتعطيل الحدود بحجة مسايرة العصر والمصلحة مع أنها واردة في نصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة. ودأب أصحاب هذا التيار على اتباع ما تقرره عقولهم، ثم يحاولون بعد ذلك البحثَ عن أدلة تؤيد ما راق لعقولهم، وهذا ما يدفعهم إلى التأويل والتحريف وليِّ أعناق النصوص والجرأة على الدين. نسأل الله العافية لنا ولجميع المسلمين.
بخصوص الحكم بما أنزل الله، النصوصُ صريحة وواضحة هي ليست محل خلاف بين الأئمة. الحكم بما أنزل الله فرض، وعدم الحكم بما أنزل الله كفر أو فسق. فرضية الحكم بما أنزل الله واردة في قوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ) وفي قوله تعالى: (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) والنصوص في هذا المعنى كثير. أما عدم الحكم بما أنزل الله واللجوء إلى الحكم بالشرائع الوضعية فإنه كفر أو ظلم أو فسق، وهذا وارد في قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ) وقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) وقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)، وقوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وقوله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم) وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ).
الاستدلال بعمل يوسف عليه السلام في غير محله، لأننا مأمورون باتباع محمد عليه وآله الصلاة والسلام ولسنا مأمورين باتباع يوسف أو غيره من الأنبياء عليهم السلام. وفي هذا المجال يوجد عند علماء الأصول قاعدة تقول: «شَرْعُ مَنْ قبلَنا ليس شرعاً لنا» وهؤلاء استدلوا بالنصوص التي تفيد أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسخت جميع ما سبقها من شرائع جملة (ونسخت بعض الأحكام في تلك الشرائع تفصيلاً). وقد أخذ بعض أئمة الأصول بالقاعدة بشكل آخر أي: «شَرْعُ مَنْ قبلَنا شرع لنا ما لم يُنْسَخ» ولا يوجد في هذا الموضوع غير هاتين القاعدتين.
بالنسبة للقاعدة الأولى: «شرع من قبلنا ليس شرع لنا» الأمر واضح أنه لا يجوز لنا الاستدلال بعمل النبي يوسف عليه السلام.
أما بالنسبة للقاعدة الثانية: «شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ» فإنها تحدد أن الاستدلال بالشرائع السابقة يكون فقط بالأحكام التي تُنْسخ من تلك الشرائع. أما الأحكام التي جاءت شريعتنا ونسختها فلا يبقى أي مسوّغ لأخذها، ونصبح مطالبين بشكل محدد بما ورد في شريعتنا. وإذا نظرنا إلى المسألة التي بيد أيدينا نجد أن شريعتنا نسخت الاحتكام إلى شرائع غير الشريعة الإسلامية. فإذا كان النبي يوسف عليه السلام سُمِحَ له أن يحكم بغير ما أنزل الله، وأن يطبق شريعة ملك مصر في ذلك الزمن، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يُسْمَح له ولا لأمته من بعده أن يطبقوا شريعة أو يحتكموا إلى شريعة غير شريعة الله. والآيات التي سردناها تبيّن ذلك بشكل جليّ. فقوله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أي يحكّموا شريعتك. وهذا من أشد النهي عن تحكيم غير الشريعة الإسلامية، لأنه ينفي الإيمان عمّن لا يحكّم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقسم بذاته عز وجل في نفي هذا الإيمان. والنسخ هنا هو النهي الجازم عن حكم كان مشروعاً. وقوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ). الطاغوت هنا هو النظام الذي يحتكمون إليه من غير الشريعة الإسلامية، وهو أيضاً الشخص الذي يحكم بغير شريعة الله. ونحن مأمورون أن نكفر بالطاغوت وليس أن نتحاكم إليه.
ولذلك نقول ونقرر بأن الاستدلال على هذه المسألة بعمل يوسف عليه السلام هو استدلال في غير محله. وهو لا يشكل دليلاً على هذه المسألة لا قوياً ولا ضعيفاً، حتى ولا يشكل شبهة دليل. وهو دليل على جهل القائل به، وليس هو من الاجتهاد الذي يكون للمجتهد فيه أجر إن أخطأ، وأجران إن أصاب.
وأما الاستدلال بموقف النجاشي فهو في غير محله أيضاً. النجاشي كان حاكماً، وقد اسلم ثم مات في السنة التاسعة أو السنة الثامنة للهجرة، على اختلاف في الروايات. ولم يكن النجاشي يطبق الشريعة الإسلامية. ومن هنا ظن بعضهم أنه يجوز للحاكم أن يحكم بغير الشريعة الإسلامية، وأن يبقى مستقلاً عن الدولة الإسلامية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرّه، وصلّى عليه حين موته ووصفه بأنه رجل صالح.
إن من يدقق في المسألة يجد أن النجاشي كان يكتم إسلامه عن قومه ولم يكن يعلم بإسلامه إلا القليل من المقربين إليه، وكانوا يكتمون عنه أيضاً. ولم يكن يستطيع إعلان إسلامه خوفاً من رعيته. والذي لا يستطيع إعلان إسلامه فهو من باب أولى لا يستطيع تطبيق الشريعة الإسلامية.
والدليل على أن النجاشي كان يخفي إسلامه عن قومه أن الحبشة اجتمعوا إليه فقالوا: «إنك فارقت ديننا» وخرجوا عليه. فعمد إلى كتاب فكتب فيه هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويشهد أن عيسى عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعلها في قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الناس، فقال: يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى. قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد الله ورسوله. قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول: هو ابن الله، فقال النجاشي، ووضع يده على صدره وقبائه: وهو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا. وإنما يعني على ما كتب. فرضوا وانصرفوا.
والدليل على أنه كان غير قادر على أمر الناس ونهيهم أنه كتب رسالة جوابية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها: «فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله».
وقد قال المقربون إليه الذين أسلموا معه وبقي إسلامهم مكتوماً: «والله لئن سمعت الحبشة لَتَخْلَعُ،ا».
فالنجاشي كان ملكاً قبل إسلامه. وحين أسلم لم يكن قادراً على تطبيق الإسلام ولم يجرؤ على إعلان إسلامه. وقد ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله إذا كان مأموراً بالهجرة فلم يأمره بالهجرة وأقره أن يبقى في ملكه من غير إعلان لإسلامه ومن غير تطبيق للشريعة. وهذا الإقرار له من الرسول كان بسبب أنه غير قادر على الإعلان والتطبيق أي كان عاجزاً عن التطبيق عجزاً حقيقياً. والعجز في مثل هذه الحالة رخصة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، حين تألّبت عليه قبائل العرب، وافق على دفع (جزية) لبعض قبائل المشركين مقابل رجوعهم عن قتاله. وهذا شيء غير جائز في الحالات العادية، وإنما جاز في حالة الاضطرار. وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم للنجاشي على كتمان إسلامه وعدم الحكم بالإسلام هو رخصة لأن حالة كانت حال اضطرار. وإذا حول مجتهد فَهْمَ هذه الحال فلن يجد فيها أكثر من رخصة لحالة الاضطرار. ولا يصح أن يقال بأن موقف النجاشي هذا دليل على جواز قيام دول مستقلة عن الدولة الإسلامية أو على جواز أن يحكم الحاكم المسلم بغير الشريعة الإسلامية حين يتمكن من الحكم بالإسلام.
ولا بد من ملاحظة الفرق بين أن يكون المسلم مشاركاً في حكم يقوده غيره، وحكم يتولاه هو ويسيطر عليه. الرسول صلى الله عليه وسلم حين وافق على إعطاء ثلث ثمار المدينة (كجزية) في غزوة الأحزاب، أي حين لجأ إلى حكم من أحكام الاضطرار كان هو الحاكم ولم يكن مشاركاً في الحكم أو تابعاً لغيره. والنجاشي كان هو الحاكم ولم يكن مشاركاً أو تابعاً لغيره في الحكم. وكذلك الحاكم المسلم في هذه الأيام وفي كل وقت يحل له أن يلجأ إلى حكم الاضطرار وأن يعمل بالرخصة حين يكون هو الحاكم.
أما أن يقرر الاشتراك في حكم يتولاه غيره ويكون هو تابعاً فيه لغيره ويقول: هذه حالة اضطرار وأنا أعمل بالرخصة فهذا لا ينطبق على عمل الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ينطبق على ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم في حالة الاضطرار والرخصة، وهذا تنزيل لحكم الرخصة إلى غير واقعه، واستدلال في غير محله.
الأنظمة المعمول بها الآن بشكل عام هي أنظمة كفر من وضع البشر، أي هي طاغوت، والمسلمون مأمورون أن يكفروا بالطاغوت وليس أن يتحاكموا إليه، ومطلوب منهم يشكل جازم أن يحصروا تحاكمهم إلى الشريعة التي جاء بها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. وحين يشترك وزير في الحكم في ظل شرائع الكفر فماذا يكون عمله؟ إن عمله محصور في ناحيتين: الأولى أن ينفذ النظام القائم في شؤون وزارته، والثانية: أن يحمي النظام القائم من أن يخالفه الناس أو يخرقوه فيما يتعلق بشؤون وزارته. أي هو حارس لنظام الكفر ومنفذ له. وهذا من الكبائر إن لم يكن كفرا ًكاملاً.
وأما الاستدلال بالمصلحة (مع أن السؤال لم يشملها) فهو أيضاً في غير محله. وقد رأينا أن نقول فيها كلمة تتميماً للفائدة.
هناك بين علماء أصول الفقه من قال بالمصلحة كدليل، وهناك من قال بالعقل كدليل، وهناك من قال بالاستحسان كدليل. هؤلاء العلماء يشترطون للاستدلال بالمصلحة أو العقل أو الاستحسان أن يكون الشرع لم يتعرض للمسألة موضعَ البحث. فإذا كان الشرع أمر بالمسألة فإن المصلحة أو العقل أو الاستحسان لم يعد من حاجة للاستدلال بها لأن الدليل من الوحي موجود. وكذلك إذا كان الشرع نهى عن المسألة لم يعد من حاجة للاستدلال بالعقل أو المصلحة أو الاستحسان. أما إذا كان الشرع لم يأمر بالمسألة ولم يَنْهَ عنها فهنا يكون عمل المصلحة أو العقل أو الاستحسان. ولم يقل أحد من علماء الأصول المعتبرين بتعطيل النصوص التي جاء بها الوحي إذا كان العقل أو المصلحة أو الاستحسان يتطلب ذلك.
فالربا حرام، حرمه الشرع بنصوص جاء بها الوحي فإذا كان كانت بعض العقول أو أغلب العقول تستسيغ الربا في ظل هذا النظام الرأسمالي. أو كانت المصالح تتطلبه، أو الاستحسان يقبله فإن الشرع يرفضه ويحرمه، وإذا أفتى به بعض من يُسّموْن علماء فإن فتواهم مردودة عليهم وهي تتصادم مع الشرع الذي جاء به الوحي.
ومسألة الحكم بغير ما أنزل الله مع تعطيل ما أنزل الله هي حرام بشكل قطعي مثل حرمة الربا لأن النصوص من الوحي جاءت بذلك. فلا يبقى أي محل لتحكيم المصلحة أو لتحكيم العقل أو لتحكيم الاستحسان.
ونحن في بحثنا هذا نجاري علماء الأصول الذين تساهلوا وقالوا بالمصالح المرسلة. وحتى على مذهب هؤلاء لا محل للاستدلال بالمصلحة. مع أن الحقيقة هي أن المصالح المرسلة غير موجودة، وهي موجودة في نظر الذين قالوا بأن الشرع ترك بعض الأمور دون أن يأمر بها أو ينهى عنها، وقالوا أنهم يستعملون العقل أو المصلحة أو الاستحسان في هذا الحقل. والحقيقة أن الشرع لم يترك بعض الأمور دون بيان حكمها، بل هو بيّن أحكام كل شيء (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)، (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ).
وحالات الإكراه الملجئ والاضطرار هي غير ذلك.
ولذلك فإن مسألة المشاركة في أنظمة الكفر حرام فلا يحل للمسلم أن يكون وزيراً أو حاكماً في الأنظمة القائمة الآن في العالم الإسلامي أو غير العالم الإسلامي. ومن يفعل ذلك فإنه إما فاسق أو كافر. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ).