الأمن الغذائي
الأمن الغذائي
على الرغم من أن مشكلة الغذاء مشكلة اقتصادية في المقام الأول، لأنها تعبر عن شكل من أشكال العلاقة بين العرض والطلب، أو بن الإنتاج والاستهلاك، إلا أن لها أبعاداً متعددة، يهمنا منها هنا ( البعد الأمني) .. ونظراً لما لهذا البعد الأمني من أهمية كبيرة فقد شاع مصطلح ( الأمن الغذائي) بسبب الارتباط الوثيق بين كل من الغذاء والأمن، فالغذاء – كما سبقت الإشارة – هو أحد حاجات الإنسان الضرورية التي تتمثل في المأكل والملبس والمسكن، إلا أن الغذاء يعتبر أهمها .. فالإنسان لا يستطيع الاستغناء عنه أو الصبر على الجوع، لقد عاش الإنسان الأول عارياً دون ملبس ودون مأوى، ولا تزال أقوام كثيرة تعيش اليوم في مجاهل إفريقيا تسير عارية أو شبه عارية، لكنها رغم ذلك لا تستطيع الحياة بلا طعام.
الطعام إذن هو أول مقومات الحياة، فإذا لم توفر بشكل يستطيع الناس الحصول عليه هاج الشعب وثار .. مما يؤدي إلى قيام الاضطرابات والفوضى واختلال أمور الأمن في البلاد، ولذلك فإن توفير الطعام للسواد الأعظم من الشعب، بأسعار تناسب دخولهم – يساعد على استتباب الأمن في المجتمع.
ومن ناحية أخرى، فإن الدولة التي لا تستطيع تأمين الطعام لشعبها من مصادر محلية تصبح عاجزة أمام الضغوط والتحديات التي تواجهها، مما يعرض أمنها للخطر وحريتها للاستباحة واستغلالها للانتقاص.
ولقد عرف الإنسان منذ فجر التاريخ مفهوم الأمن الغذائي بصورته الأولية، كما تعلم الإنسان من الممارسة أن للزراعة ( بشقيها النباتيوالحيواني) مواسم وفرة عطائية ومواسم شح. وكان لزاماً عليه – بالتالي – أن يحفظ بعض الأغذية من مواسم الوفرة ليستعين بها في غذائه في مواسم الندرة .. وهكذا تعامل الإنسان مع خزن الحبوب، وتجفيف اللحوم، وغيره، ومع نشوء الدول سعت كل منها إلى تأمين حاجة مواطنيها من السلع الغذائية، وعلى مدار العام، بنفس الخصائص والمواصفات .. فالأمن الغذائي لبلد ما أو منطقة جغرافية معينة هو الحال الذي يكون فيه وضع المواطنين الغذائي – في ذلك البلد أو تلك المنطقة – غير معرض لحدوث أزمات غذائية تحت أي ظرف كان أو في أي زمن.
وإذا كان توفير الغذاء يمثل الجانب الأمني، بل الجانب الرئيسي للأمن الغذائي، فإن الجانبالآخر هو توفير إمكانية الاتصال وإيصال ذلك الغذائي، إلى حيث تكون الحاجة إليه،
وعلى ذلك، فإن المقاييس التي تحدد الأمن الغذائي لبلد ما أو لمنطقة جغرافية معينة .. هي :
– نسبة الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الاستراتيجية ( ذات النمط الغذائي الاستهلاكي السائد).
– نسب قيمة الإنتاج الزراعي المصدر إلى الإنتاج الزراعي المستورد.
– نسب قيمة المستوردات الزراعية الإجمالية لإجمالي الاستيراد.
– نسب قيمة الإنفاق على الغذاء من إجمالي الدخل القومي.
– التقلبات السنوية في الإنتاج الزراعي إلى إجمالي الناتج المحلي.
– متوسط حصة الفرد من قيمة الإنتاج الزراعي.
– نسبة صافي الواردات الزراعية إلى إجمالي الناتج المحلي.
– نسبة المخزونات الغذائية – وبخاصة القمح – إلى مقدر الاستهلاك السنوي(5) .
فالأمن الغذائي إذن، هو تحفيز قدرات وفعل منسق وعمل هادف لحل معضلات محددة، فرضها واقع زراعي ( صناعي – اجتماعي – اقتصادي) في بلد ما، أو في منطقة جغرافية معينة، وبالإمكان تحديد مفهوم الأمن الغذائي ليشمل ضمان توفير بعض السلع الغذائية في الأسواق المحلية على مدار العام، وبأسعار مناسبة، وذات قيمة غذائية تكفل للإنسان بقاءه حياً وتمكنه من أداء مهامه الاقتصادية بصورة صحيحة مناسبة.
مما سبق يمكن تعريف (الأمن الغذائي) .. بأنه قدرة مجتمع ما على توفير الاحتياجات الأساسية من الغذاء للمواطنين .. وضمان حد أدنى من تلك الاحتياجات بانتظام، عبر إنتاج السلع الغذائية محلياً، وتوفير حصيلة كافية من عائدات الصادرات لاستخدامها في استيراد ما يلزم لسد النقص في الإنتاج الغذائي الذاتي، بدون أي تعقيدات أو ضغوطات من أي مصدر كان.
والأمن الغذائي اصطلاح طرحته المنظمات والهيئات الدولية وتبنتهالحكومات ليأتي مترافقاً مع مصطلحات أخرى، كالأمن الوطني، والأمن الاستراتيجي، والأمن الاجتماعي، وغيرها من المصطلحات التي أريد طرحها التنبيه إلى ضرورة مواجهة أخطار تهدد المجتمع من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة للتخفيف من آثارها وإزالة جميع الأضرار الناجمة عنها، كما أن المقصود بالأمن الغذائي قد يكون توفير الغذاء اللازم للمجتمع من مصادره المحلية والخارجية، وضمان توزيع الغذاء وجعله في متناول أعضاء المجتمع(6).
وقد تفاوتت النظرة إلى المجال الحيوي الذي يجب فيه توفير الأمن الغذائي، ففي الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن الأمن الغذائي يجب توفيره على المستوى العالمي .. أي أن يكون الغذاء المنتج في العالم يكفي لسد احتياجات سكان العالم، نجد أن البعض الآخر يعتقد أن الأمن الغذائي يجب توفيره على المستوى العالمي ..نجد أن البعض الآخر يعتقد أن تحقيق الأمن الغذائي يجب أن يكون على المستوى الإقليمي .. أي أن يستطيع الإقليم إنتاج ما يكفي لحاجة سكانه من الغذاء، كما نجد أن البعض يغالي حتى الاعتقاد بأن تحقيق الأمن الغذائي يجب أن كون على مستوى كل دولة على حدة، وبحيث تستطيع كل دولة أن تضع خططها وبرامجها لإنتاج حاجتها من السلع الغذائية الاستراتيجية، منعاً من التأثير عليها أو التحكم في أي مصدر من مصادر الغذاء (7).
المخزون الاستراتيجي
يرتبط مفهوم المخزون الاستراتيجي بمفهوم الأمن الغذائي وهو أمر متعارف عليه دولياً .. وهو عبارة عن سلع غذائية وهو عبارة عن سلع غذائية غير محددة تعتبر ذات ضرورة ماسة في حياة المواطنين – وذات نمط غذائي سائد – يتم الاحتفاظ بكميات منها تحت إشراف مباشر من قبل الحكومات، وتكون الزيادة عن احتياجات الأسواق الآنية الطبيعية. وتستخدم في حالات معينة مثل : ( الكوارث الطبيعية – الحروب – الارتفاع المفاجئ غير الطبيعي في الأسعار – تغير الطلب والعرض العالمي على تلك السلع في حالة عدم إنتاجها محلياً).
ويتم تداول هذا المخزون دورياً بحيث تؤخذ منه كميات تعوض عنها بكميات مماثلة، هدف أن لا تفقد المادة الغذائية صفاتها الغذائية .. ويتحدد كم ونوعية هذا المخزون بظروف كل دولة وقدراتها الاقتصادية والفنية(8).
الفجوة الغذائية :
الفجوة الغذائية هي مقدار الفرق بين ما تنتجه الدولة ذاتياً وما تحتاجه إلى الاستهلاك من الغذاء – كما يعبر عنها أيضاً بالعجز في الإنتاج المحلي عن تغطية حاجات الاستهلاك عن السلع الغذائية، والذي يتم تأمينه بالاستيراد من الخارج(9).
والفجوة الغذائية – بهذا التعريف – تشمل الوضع الغذائي الراهن، وفق عادات الاستهلاك في الدولة، وبالمعدلات التي يتناولها الفرد من مختلف أنواع الأغذية، وهي بذلك لا تتطرق إلى تحديد الكميات الواجب تناولها من الغذاء، ولا إلى تحسين نوعية الغذاء المستخدم، سواء من حيث السعرات التي يحصل عليها الفرد أو مكوناته من البروتين النباتي والحيواني، وإنما يؤخذ بعين الاعتبار تطور الطلب الطبيعي على الغذاء ( نتيجة لعوامل الداخلية في الدولة) والتغير الذي يمكن يحصل على عادات الاستهلاك ( نتيجة للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تسود الدولة).
وتتمثل خطورة الفجوة الغذائية التي تواجه البلدان العربية والإسلامية في ثلاثة عوامل رئيسية :
– العامل الأول : هو استحالة تأمين البلدان العربية لما تحتاجه من مواد غذائية من مواردها المحلية، في ظل الظروف والمعطيات الحالية.
– العامل الثاني : يكمن في توافر ما تحتاجه الأقطار العربية من غذاء تحت سيطرة بلدان قليلة في العالم، والتي قد تلجأ إلى استخدام الغذاء كسلاح اقتصادي أو سياسي.
الشكل يبين الهرم الغذائي
– العامل الثالث : هو ما تشهده أسعار المواد الغذائية من تقلبات كبيرة في الأسواق العالمية، وخاصة ما حدث بعد بداية القرن الحادي والعشرين بقليل، فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية ارتفاعاً جنونياً مما أثر على المخزون الاستراتيجي لكثير من بلدان العالم الإسلامي والعربي، وما زالت الأسعار حتى الآن لم تصل إلى حد الاستقرار فهي في تغير مستمر، بل في ارتفاع مستمر، وهو ما يمثل التحدي الأكبر لبلدان العالم الثالث، فهي مطالبة بإيجاد التمويل اللازم لشراء المواد الغذائية وتأمينها مع تأمين المخزون الاستراتيجي داخل الدولة في نفس الوقت.
وإذا أخذنا العامل الأول – نجد أن البلاد العربية – مثلاً – لو أرادت أن تنتج المواد الغذائية الأساسية من مواردها المتاحة، ووفق المعطيات الحالية من انخفاض مستويات الإنتاجية وضعف استعمال تقنيات التكنولوجيا الحديث في الإنتاج الزراعي وضعف الحوافز والسياسات الزراعية التي تشجع الإنتاج، فإن إنتاج ما تستهلكه الأقطار العربية من الحبوب فقط يحتاج إلى 44.8 مليون هكتار.وهذه مساحة تزيد بنسبة 15 % عن مجمل المساحة المزروعة سنوياً في جميع البلدان العربية، حيث بلغ مجمل مساحات الأراضي المزروعة بجميع المحاصيل رياً ومطرياً في جميع الأقطار العربية ما مساحته 38 مليون هكتار سنوياً(10).
وإذا انتقلنا إلى العامل الثاني … نجد أنه نظراً للعجز الكبير الذي يعانيه الوطن العرب من الحبوب الغذائية، فإن المعونات الخارجية لكثير من الأقطار العربية من البلدان المتقدمة ( بخاصة أمريكا، ذات الفائض الغذائي الزراعي) تأتي على كل مساعدات غذائية تعتبر الحبوب في مقدمتها، وقد أخذت هذه الزيادة في الاستمرار، ففي عام 1974 بلغ وزن هذه المعونات نحو 1.1 مليون طن متري، وصلت في عام 1987 إلى 3.4 مليون طن متري وفي ذلك العام 1987 حصلت مصر وحدها على نحو 13 % من مجموعات تلك المعونات، وقد كان من نتيجة ذلك زيادة واردات الوطن العربي الغذائية من الأقطار الخارجية، مما أدى إلى انخفاض نسبة الاكتفاء الذاتي للبلدان العربية من الغذاء حتى وصلت في مجملها عام 1987 إلى نحو 60 % فقط، وهذا الوضع يحمل الكثير من المخاطر للأقطار العربية، فزيادة اعتماد البلاد العربية على المعونات الأجنبية، أو على تحقيق الاكتفاء من العالم الخارجي يؤدي إلى وقوع الوطن العربي تحت النفوذ والضغوط الأجنبية .. فعن طريق رغيف الخبز تستطيع هذه الدول ممارسة الضغط أكثر من استعمالها لـ أي وسيلة أخرى.
أما بالنسبة للعامل الثالث : فإننا نجد أن التاريخ الحديث لأسعار الغذاء العالمية قد شهد تذبذباً كبيراً، ففي منتصف السبعينيات من القرن العشرين وصل ثمن الطن من القمح إلى حوالي 250 دولاراً، بعد أن كان 70 دولاراً في نهاية الستينات من نفس القرن، ثم واصل الارتفاع في عقد الثمانيات، ثم استقر نوعاً ما في التسعينيات، ثم ارتفع كثيراً في الألفية الثالثة ( القرن الحادي والعشرين الحالي) حتى وصل سعر الطن من القمح في الأسواق العالمية إلى 300 دولار في عام 2003.مع الارتفاع المستمر في سعر الدولار نفسه – مما يدل على أن أسعار المنتجات الغذائية في الأسواق العالمية لا توحي بالأمن والاطمئنان.
ومن ثم، فقد اضطرت معظم الدول إلى استيراد المواد الغذائية التي تنقصها من الخارج بالأسعار الجارية، وفي نفس الوقت طرح هذه المواد في السوق الداخلي المحلي بأسعار تتناسب وذوي الدخل المحدود من السكان، وفي معظم الأحيان كانت تلك الأسعار منافسة للمنتج المحلي، مما اضطر معظم المنتجين إلى الابتعاد عن إنتاج السلع التي تستوردها الدولة وتطرحها بأسعار لا يستطيع معها المنتج المحلي منافسة تلك الواردات، وكان على رأس هذه السلع المستوردة : معظم المنتجات الغذائية الأساسية وإعادة تقديمها للمستهلك بأسعار تتناسب ودخله(11).
جوانب الأزمة الغذائية :
للتعرف على العوامل التي أدت بالأقطار العربية إلى حدوث الأزمة الغذائية التي تعاني منها الآن نستطيع التمييز بين جانبين رئيسيين لهذه الأزمة، ومن ثم التمييز بين مجموعتين رئيسيتين من العوامل : الجانب الأول هو جانب الاستهلاك والجاني الثاني هو جانب الإنتاج.
1.الجانب الأول : الاستهلاك العربي من الغذاء :
لدراسة مدى العجز، أو الإسراف، في الاستهلاك العربي من الغذاء فإن حجم هذا الاستهلاك يعتبر محصلة لكل من عدد السكان ومتوسط استهلاك الفرد.. وهنا نجد أن العالم العربي يتصف بارتفاع معدل نمو سكانه .. حيث يصل هذا المعدل في المتوسط للأقطار العربية إلى حوالي 2.9% سنوياً، ومن المؤكد أن هذه الزيادات السكانية الكبيرة تؤدي بالتالي إلى زيادة حجم الاستهلاك الكلي للأقطار العربية من الغذاء، مما يساهم بالتالي في الأزمة الغذائية، ولكننا لا يمكننا المطالبة بالحد من الزيادة السكانية بصفة عامة بين أقطار الوطن العربي، فهناك أقطار عربية تعاني من [ قلة السكان ].
وإذا كان المستوى الغذائي يقاس بمقدار ما يخص الفرد من سعرات حرارية في اليوم، فمن المعلوم أن كمية السعرات الحرارية التي يحتاجها جسم الإنسان تتفاوت بحسب المناطق التي يعيش فيها وبحسب الفصول المختلفة وسن الإنسان ونوعه ونوع العمل الذي يزاوله .. إلى غير ذلك من الأمور.وبناء عليه، لا يمكن تحديد عدد السعرات التي يوصى بها لكل فرد بشكل مطلق، إلا أنه يمكن وضع مستويات التغذية عالمياً.
وباستعراض نصيب الفرد من السعرات في الأقطار العربية، نجد أنه يمكننا تقسيم الأقطار العربية – بحسب السعرات الحرارية التي يحصل عليها من كل السكان في المتوسط – إلى ثلاثة مستويات.
• الأول : وهو الذي يفوق المعدل العالمي، ويشمل الأقطار : الإمارات – الكويت – السعودية – سوريا – مصر – ليبيا
• الثاني : وهو يسير حسب المستوى العالمي ويشمل أقطار : المغرب – الجزائر – تونس – العراق – الأردن.
• الثالث : المستوى المنخفض عن المستوى العالمي، ويشمل الأقطار : السودان – الصومال – موريتانيا – اليمن (12).
وقد تم تقسيم الأقطار العربية على النحو السابق باعتبار أن المعدل العالمي للمستوى الغذائي هو 2665 سعراً حرارياً .. مع ملاحظة أن هذا هو المتوسط العالمي، في حين أن نصيب الفرد من السعرات الحرارية في أمريكا الشمالية يبلغ نحو 3652، وفي أوربا الغربية 3424 ( وفي الاتحاد السوفييتي سابقاً كان 3426).
2. الجانب الثاني : الإنتاج العربي من الغذاء :
يعود انخفاض مستوى الإنتاج من الغذاء في الأقطار العربية إلى عاملين رئيسيين :
الأول : ضيق الرقعة الزراعة المنزرعة.
الثاني : انخفاض مستوى الإنتاجية للموارد الزراعية.
وعلى حين تقدر المساحة الزراعية في الوطن العربي بحوالي 60.3 مليون هكتار، فإن المساحة المستغلة بالفعل لا تتعدى 38 مليون هكتار سنوياً .. كما تبلغ المساحة التي تحتلها المحاصيل الدائمة نحو 8.2% فقط من جملة الأراضي الزراعية.
مما يعني أن حوالي 91.8% من الأراضي الزراعة العربية لا تستغل بشكل منتظم، وإنما تترك في كثير من فصول السنة بوراً، بدون زراعة ..
كما أن الدارس لمستويات الإنتاجية للموارد الزراعية في البلدان العربية يخرج باستنتاجين رئيسيين.
أولهما : وجود تفاوت كبير بين مستويات الإنتاجية لمحصول ما، إما داخل البلد الواحد بين المناطق المختلفة، وإما بين الأقطار العربية وبعضها البعض.
وثانيهما : أن مستوى إنتاجية الموارد الزراعية العربية – بصورة عامة – يبدو دون مستوى الحدود الممكنة.
وتعتبر المستويات الإنتاجية حصيلة الموجودات المحلية والقومية من سياسات زراعية وجهود علمية وإدارات الموارد ومدى توافر الحوافز – إلى آخر قائمة كل الأعمال التي تتعلق بالإنتاج .. إن جانب الإنتاج يعد المسؤول الأول عن الأزمة الغذائية التي تعاني منها الأقطار العربية، فالإنتاج العربي من الغذاء منخفض للغاية، ولا يتناسب مع حجم الموارد الطبيعية والبشرية المتاحة للأقطار العربية، كما لا يتناسب مع الزيادات الكبيرة والمستمرة للسكان.
عود على بدء :
إن أية قراءة عاجلة للصورة السياسية العالمية في الظروف الراهنة، وخاصة بعد التدخل الأمريكي الفعلي في أفغانستان والعراق والتهديد المستمر لدول عربية وإسلامية عديدة .. تظهر أهمية وجود ما يسمى بالأمن الغذائي .. إن الدول المتقدمة التي تتحكم في إنتاج الغذاء وتصديره، وتتحكم بالتالي في أسعاره، تتعمد في أغلب الأحيان تحطيم اقتصاديات الدول النامية وأنماط إنتاجها الزراعي وأنواعه وفئاته، وتتلاعب بالعلوم وبرامج المساعدة والتنمية والإصلاح وغير ذلك، لكي تفرض سلعتها هي ومواردها الغذائية والزراعية هي .. وتدمير ما عداها .. لكي يسهل عليها تنفيذ أغراضها السياسية.
وتبرز القراءة السريعة للصراعات السياسية في عالمنا المعاصر دور السلاح الغذائي والحروب التجارية في هذه الصراعات، بدءاً من التحكم في تقديم المساعدات وأحجامها وأنواعها، وانتهاء بالحصار الاقتصادي أو حرب التجويع، مروراً بالأسعار والأنظمة الدولية لتجارة وإيفاد الخبراء والبعثات والنصائح وتقديم الخطط وبيع التكنولوجيا والمنح الدراسية، وغير ذلك كثير.
إن كل شيء في هذه المأساة يشير إلى مسؤولية النظام العالمي الجديد في استمرارها وتفاقمها، سواء كانت هذه المسؤولية أخلاقية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية .. من هنا ولدت فكرة الأمن الغذائي .. وشاع استخدامها في العالم خلال العقود الأخيرة وتحولت إلى عنصر رئيسي في برامج واستراتيجيات الدول والأحزاب والثورات والمفكرين … وللأسف، فإن صورة الأمن الغذائي في الوطن العربي مخيفة وقائمة، فالوطن العربي بل – والعالم الإسلامي – هو أكبر مستورد للحبوب في العالم مما يجعله – بلا أدنى شك – تحت رحمة الدول المصدرة لهذه الحبوب.
وفي حين تمتع الوطن العربي بمساحة غير محدودة من الأراضي الزراعية والمياه والتنوع البيئي والمناخي والتكامل البشري والثروات الطبيعية الكبيرة، فإن النظم العربية تستمر في إغفالها لبعد القومي في التنمية والأمن الغذائي .. في الوقت الذي يزداد فيه خضوع العرب – عموماً – لضغوط الدول المصدرة للغذاء، لفرض إرادتها على قضايا العالم العربي … وحتى سلاح النفط نفسه لم يستفد منه العرب، بل إن عائدات النفط المستمرة لم تقدم لعالم العربي شيئاً يذكر في مجال الأمن الغذائي (13).
ومن الطبيعي أن كل دولة تسعى لتحقيق اكتفاء ذاتي غذائي، أي : الوصول إلى وضعية معينة تقوم على إنتاج كل ما يحتاجه مواطنيها من طعام وغذاء، وإذا لم يكن ذلك ممكناً نظراً لصعوبة إنتاج كل دولة لجميع العناصر والموارد والسلع الغذائية .. ونظراً إلى أن العالم قائم على التبادل فيكفي أن تصل الدولة إلى وضعية تقوم على التعادل بن قيمة ما تصدره وقيمة ما تستورده من سلع غذائية بحيث لا تشكل قيمة ما تستورده عبئاً على قطاعات الاقتصاد الأخرى.
وعندما تعجز الدولة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي فهي لا بد أن تقع في أزمة توفير الغذاء من الخارج وتوفير الأموال اللازمة له .. فالأزمة الغذائية تعني عدم قدرة دولة ما على توفير الاحتياجات الأساسية من الغذاء للمواطنين، وضمان الحد المطلوب منها بانتظام وتوزيعها على المواطنين .. ومن المفترض لكي يتحقق الاكتفاء الغذائي ( أو الأمن الغذائي) أن يتناسب الإنتاج مع عدد السكان وتزايدهم من ناحية، ومع الطلب على الغذاء من ناحية أخرى ..
هل توقفت الأرض عن العطاء .. ؟
إن إمكانات كوكب الأرض غير محدودة – ولا تضن الأرض على ساكنيها .. ولكن لقد أجرى علماء مخلصون للجنس البشر والحياة أبحاثاً كثيرة وهامة حول قدرة الأرض على تلبية حاجات الناس الغذائية، في ضوء المعدلات المستمرة للتزايد السكاني، وكانت النتائج مبهرة .. شيء لا يتصوره عقل .. وفيما يلي بعض نتائجها ..
– تبلغ مساحة الأراضي اليابسة في العالم 13.2 بليون هكتار، نصفها غير قابل لزراعية وأكثر من ربعها (25.7%) مراع .. وأقل من ربعها الباقي (24.3 %) أراضي قابلة للزراعة، غير أن مساحة الأراضي المزروعة فعلاً أقل من نصف الأراضي القابلة لزراعة (43.5%)، وما زال القسم الأكبر ينتظر المبادرة الإنسانية لاستزراعه واستغلاله .. وعلى سبيل المثال، فإفريقيا التي تعاني من المجاعات المستمرة لم تستغل من أراضيها سوى 16%، وما تزال 84% من الأراضي تمثل احتياطياً هائلاً لإفريقيا والعالم (14).
– يحتاج سكان العالم إلى نحو 200 مليون طن من البروتين سنوياً – حسب تقديرات العلماء – وفي حين يبلغ العجز العالمي 22 مليون طن سنوياً، فإن العلماء يؤكدون أن في العالم ما يفوق احتياجاته السنوية بكثير، وهو متوفر في الطبيعة على هيئة مراع أو مصادر إنتاج أخرى، ويشيرون إلى وجود كميات ضخمة من البروتين الصالح لغذاء الإنسان، ولكن الدول التي تملكه تستخدمه في تغذية الماشية والحيوانات الأليفة وترفض طرحه في الأسواق من أجل البشر(15).
– يرى العلماء أن كوكب الأرض يستطيع إطعام 47 بليون نسمة، بالمستويات الممتازة الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية، و157 بليون نسمة، بمستويات التغذية في اليابان، ويرى علماء آخرون أن الأراضي الزراعية لو أحسن استغلالها لأطعمت عشرة أضعاف عدد السكان العالم حالياً (6 بليون نسمة)، وبمستوى استهلاكي مرتفع.
– ذهب علماء آخرون إلى مدى أبعد من كل ما سبق، حين قدروا أن كوكب الأرض يستوعب ويطعم ما يكفي لعدد 132.000 بليون نسمة، وهو رقم كبير جداً أشبه بالخيال، ذلك أن الإنسان لم يكتشف ولم يستثمر من طاقة الكون والطبيعة اللذين يعيش في كنفهما سوى 1% حتى الآن، رغم ثورات العلوم وقفزاتها الكبرى في القرن العشرين(16).
إنها إذن مسألة عجز الإنسان ومسؤوليته، لا فقر الطبيعة وشحها، فالعلم يبرهن يومياً أن الكون لا محدود، وموارده لا نهائية، وأن الفكر والعقل والعلوم والجهد والخيال التي يحوزها الإنسان تمكنه من فتح آفاق وراء آفاق أمامه، لا لسد حاجياته وحسب، بل للارتقاء بها وتوسيعها وتطويرها.
وإنها أيضاً مسألة تتعلق بعدالة التوزيع على كوكب الأرض كله، ما بين دول الشمال ودول الجنوب، فليس هناك سبب لأن تظل دول الجنوب تعاني المرض والفقر والجهل والإهمال المتعمد، بل والإهدار المتعمد للموارد المتاحة … بينما تظل دول الشمال تعاني من التخمة والامتلاء، وتسرف في الإنفاق على الأجهزة والأدوية الخاصة بإنقاص الوزن والتخسيس وخلافه .. إنه في النهاية اختلال المعادلات على كوكب الأرض …
ومما سبق يتضح ما يلي :
إن العالم الإسلامي – (والوطن العربي أهم أجزائه) يمتد في مناطق واسعة، وفي مساحة 13.5 مليون كيلو متر مربع، وبذلك يتفوق الوطن العربي من حيث المساحة على قارة أوربا بكاملها، بل ومساحة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
وبفضل هذا الامتداد الواسع للوطن العربي تتنوع المظاهر التضاريسية وتتباين الأنماط المناخية وتتعدد الموارد الطبيعية، مما يشجع على قيام أنشطة بشرية متنوعة ومتكاملة .. ولكن على الرغم من هذه الإمكانات – التي يتمتع بها الوطن العربي – إلا أن التخلف لا يزال السمة البارزة المميزة له، فالإنسان العربي لم يستثمر الموارد الطبيعية بشكل يحقق الرفاهة لمجتمعه حتى الآن .. بل إن الخلافات العربية المستمرة تسهم في تعطيل كل محاولات التعاون والتكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية .. ؟!
ونتيجة للأوضاع الاقتصادية والسياسية المتردية لأقطار الوطن العربي، فقد برزت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين مشاكل كثيرة أصبحت تهدد الأمة العربية في حياتها وبقائها .. وبعيداً عن السياسة ومشاكلها، فإن الأمن الغذائي يعتبر أخطر مشكلة يعاني منها الوطن العربي ..
ومن الناحية الاقتصادية يمكن القول بأن المشكلة تكمن في زيادة الفجوة بين العرض والطلب .. فزيادة استهلاك الأقطار العربية للطعام يفوق نسبة زيادة الإنتاج داخل حدود الوطن العربي، وتقدر نسبة الزيادة في إنتاج الغذاء نحو 2%، بينما يزداد الطلب عليه بنحو 5% سنوياً مما يجعل الفجوة في حدود 3%، ونتيجة لنمو الفجوة الغذائية، فإن نصف حاجة الوطن العربي من الطعام أصبح يستورد من الخارج، مما جعل المنطقة العربية أكبر منطقة في العالم مستوردة للغذاء .. ؟
وكما سبقت الإشارة، فإن الحبوب الغذائية تتصدر قائمة المستوردات الغذائية للبلاد العربية، ويعتبر القمح أهم الحبوب الغذائية المستوردة، حيث تبلغ نسبة الاكتفاء الذاتي منه في الوطن العربي، وفي عام 1984 نحو 34% فقط ل إن هذه النسبة في زيادة مستمرة بسبب الزيادة السكانية .. وعلى أية حال فقد أصبحت البلاد العربية اليوم مستوردة لكل أنواع السلع الغذائية … !!
وعلى الرغم من أن مشكلة الغذاء اقتصادية في المقام الأول، إلا أن لها أبعاداً أخرى كثيرة، وبخاصة البعد الأمني والسياسي. ولذلك، فالمسألة ليست بهذه البساطة ولا يعبر عنها – كما يظن البعض – بالعجز الناجم عن تفوق الواردات على الصادرات، صحيح أن بعض الدول العربية تشكلعبء هذا العجز في إنتاج الغذاء مشكلة اقتصادية له، إلا أن البعض يستطيع دفع ثمن مستورداته من الغذاء دون مشقة .. لكن .. ليست هذه هي المشكلة، إنما المشكلة في المقام الأول هي مشكلة إنتاج غذاء من مصادر محلية، أكثر من كونها أزمة غذاء .. وجوهر هذه المشكلة يتلخص في أن الغذاء سلعة غير مرنة، لا يمكن استبدالها أو الاستغناء عنها ولو إلى حين، ولهذا السبب، فإن نقص الغذاء وارتفاع أسعاره كفيل بتوليد الكثير من المشاكل الأمنية، كالفوضى والاضطرابات واختلال الأمن داخل البلاد … !!
كما أن الاعتماد المتزايد على الخارج لتلبية حاجات الدولة من الغذاء يعد مسألة خطرة .. فكما رأينا في الصفحات السابقة – أن الغذاء كثيراً ما يستخدم كسلاح تضغط به دول الفائض الغذائي على الدول المستوردة، لتذعن لرغباتها وتنفذ مخططاتها … ومما يؤكد هذا القول أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية كلفت خبرائها بوضع تقرير بناءً على طلب من وزير الخارجية الأسبق ( هنري كيسنجر) عشية انعقاد المؤتمر العالمي حول التغذية في مدينة روما عام 1974م.
وقد جاء في التقرير ما يلي :
( إن نقص الحبوب في العالم من شأنه أن يمنح الولايات المتحدة سلطة لم تكن تملكها من قبل، إنها سلطة تمكنها من ممارسة السيطرة الاقتصادية والسياسية تفوق تلك التي مارستها في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية .. ).
وهل تغيرت النظرة الأمريكية ؟ .. بالتأكيد لا، بل قامت بتدعيم هذه النظرية عن طريق المعونات التي تقدمها للدول، لضمان تأييدها.
ومن أجل مواجهة هذا التحدي الخطير الذي يفرض الأمن الغذائي العربي.ينبغي وجود تعاون وتضافر الشعوب العربية والإسلامية فيما بينها، لوضع استراتيجية غذائية موحدة تضع في اعتبارها النقاط التالية :
1- إنتاج الغذاء مسؤولية قومية.
2- تنمية الموارد المائية وصيانتها واستغلالها مسؤولية عربية إسلامية.
3- التعاون العربي في صناعة المستلزمات الزراعية.
4- التعاون العربي في بناء البنية التحتية.
5- الإصلاح الزراعي على المستوى العربي.
6- استثمار جزء من الإيرادات النفطية في تنمية القطاع الزراعي ونجاحه فيما يتعلق بإنتاج الغذاء (17).
إذا كانت المشكلة بهذا الحجم من الأهمية .. فإن السؤال هو : لماذا لا يقوم تكتل عربي إسلامي للاستفادة من الموارد الطبيعية والبشرية والخبرات الموجودة في العالم العربي والإسلامي، حتى يمكن لهذا العالم أن يتخطى هذه العقبة الكنود (18).
والسؤال الأهم هو :
لماذا فرط المسلمون – والعرب – في تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية المشرقة حتى وصل بهم الحال إلى هذه الدرجة من التأخر والتخلف في كافة المجالات حتى يظل العالم الإسلامي بالذات يصنف في الدول النامية والمتخلفة .. ؟!!!
الفصل الثاني
أصول الأمن الغذائي في القرآن والسنة النبوية
/1/ الزراعة وأهميتها :
في واد غير ذي زرع في الجزيرة العربية بدأ الإسلام على يد النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عليه القرآن الكريم هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وألهمه التشريع والحديث، وعلمه ما لم يكن يعلم .. وشرح الله صدور قوم مؤمنين، وانطلق المجتمع الإسلامي يعمر ويوفر الخير لكل الناس في كل المجالات، مسترشداً بنور كتاب الله تبارك وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومستظلاً بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، فالقرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة هما الأساس الفكري لكثير من العلوم الأساسية ثم لكثير من العلوم التطبيقية التي ترتبت عليها وتطورت منها نتيجة للدراسات المستفيضة، واكتشاف الكثير عن الحقائق العملية التي تذاع وتنشر.
والأمر الذي يجب تأكيده هنا هو أن القضايا التي كثر الحديث فيها كفضل العلم والعلماء في الإسلام، وعدم تعارض الدين مع العلم، أصبحت معلومات وقضايا محسومة، والعلم بها أصبح ضرورة من الضرورات لكل من يعنيه هذا الشأن، ويكفي أن القرآن الكريم قد قرر أن أكثر الناس خشية لله هم العلماء، قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر : 28].
ولا أدل على بطلان دعوى تعارض العلم مع الدين من أن الله سبحانه وتعالى هو المشرع والخالق، فهو الخالق لكل الكائنات، ومرسي الجبال، ومجري الأنهار والبحار والمحيطات، ورافع السماوات، وباسط الأرض.
وعلى العموم، فإن العقلانية في الإسلام أمر معترف به، اعترف به كل منصف، ومن المعلوم أيضاً أن الكنيسة ورجالها وآباءها السابقين الذين اخترعوا الدين من عند أنفسهم، هم الذين وقفوا في وجه العلم والعلماء، حتى كان الفصام المستمر بين العلم والكنيسة.
ومن المتفق عليه أن القرآن الكريم – كتاب الله المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – ملئ بالآيات التي تدعو إلى التفكير في ملكوت السماوات والأرض، وفيهكثير من العبر التي تتصل بالنبات والحيوان، يقول الحق تبارك وتعالى : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } [النحل : 13]، ويقول عز من قائل : { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [الجاثية : 4]، ويقول الحق سبحانه وتعالى : { وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } [الذاريات : 20-23] … ليس هذا فقط، بل إن كتاب الله المعجز مليء بالآيات الكونية التي تلفت أنظار المؤمنين إلى ما في هذا الكون من آيات تنطق بالوحدانية وتدعو المتأمل إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى.
الزراعة ونشأة الحضارة .. !
وفي حديثنا عن أصول الأمن الغذائي نجد أن الزراعة تعتبر أول اصل من هذه الأصول، فهي بحق تعتبر البداية الحقيقية لقيام الحضارات واستمراريتها … والإنتاج الزراعي موسمي، فهذه الزراعة صيفية، تلك شتوية وهذه نيلية، وهكذا فمع أن الإنتاج موسمي، فإن الاستهلاك مستمر على مدار العام كله، لا فرق بين صيف وشتاء، وربيع وخريف، وهو ما يؤكد حتمية وجود ما يسمى بـ ( المخزون الاستراتيجي)، أو على الأقل المخزون الذي يكفي حتى يحين موعد موسم الحصاد التالي، ومن هنا كانت حتمية الاحتفاظ بالمنتجات سليمة لكي تفي بمتطلبات الاستهلاك … ونتيجة حتمية أيضاً تنشأ وسائل التخزين وأنماطه وطرقه ودراساته، وغير ذلك كثير.
كذلك، فإن التخصص، والتمنطق، صفة من صفات الإنتاج الزراعي، فهذه الأرض الصفراء أو الطينية أو الخفيفة يجود فيها إنتاج الحبوب، وتلك يجود فيها إنتاج الفاكهة، وتلك يجود فيها إنتاج الألياف والسكريات ومحاصيل الزيوت .. وهذا الاختلاف يؤدي حتماً إلى ضرورة تكامل بين هذه المناطق، فهذه تصدر إلى تلك، وتلك تصدر إلى هذه، حتى تستمر الحياة، ومن هنا كان ( التبادل التجاري) حتمية اقتضتها خصائص الإنتاج الزراعي.
ولقد كانت التجارة بالمنتجات الزراعية عاملاً مهماً من عوامل انتشار الإسلام في منطقة آسيا، وبخاصة جنوب شرق آسيا، مثل : ماليزيا وإندونيسيا وغيرها.
وإذا كانت الزراعة أساس المنتجات، فإنها بل شك أساس التصنيع، وخاصة في الصناعات القائمة على المواد الخام الزراعية، غذائية كانت أم كسائية، بل لقد نشأت علوم التسويق والتعبئة والتغليف وغير ذلك، نتيجة لهذا التخصص والتمنطق (19).
أولا : الزراعة وفضلها وحث الإسلام عليها :
/1/ القرآن الكريم كثيراً ما يتحدث عن ضرورة الزراعة وأهميتها :
يقول الإمام القرطبي عند قول الله تبارك وتعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 261]، إن الآية دليل على أن اتخاذ الحرث من أعلى الحِرَف للمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولهذا ضرب الله بها المثل (20).
كما أن كثيراً من الآيات القرآنية تتحدث عن المحاصيل الزراعة وتنويعها، بما يعط إشارة قوية إلى ضرورة الاقتداء والمحاكاة، حتى لا يكون الإنتاج الزراعي أو التصديري معتمداً على محصول واحد بما يكتنفها من المخاطر الاقتصادية المعلومة، يقول الحق تبارك وتعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 99]، ويقول الحق تبارك وتعالى : { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد : 4].
كما أن آيات القرآن الكريم فيها ما يربط الزراعة بغيرها، فهناك ما يربط الإنتاج الزراعي بالإنتاج الحيواني ويبين التلازم بينهما ….. يقول الحق تبارك وتعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ } [السجدة : 27].
كما أن بعض آيات القرآن الكريم يربط مراحل الإنتاج الزراعي، من حرث الأرض واستصلاحها وسقيها بالماء ثم بعد ذلك الحصاد والتخزين … وهذا كله واضح في قوله الحق تبارك وتعالى : { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً } [عبس : 24- 28].وقول الحق تبارك وتعالى : { …… فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ } [يوسف : 47].
2/ أما السنة النبوية فيها من الحض على الزراعة والإعلاء من شأنها:
يقول عليه الصلاة والسلام : ( ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة )(21).
فقد تميزت الزراعة دون سائر أوجه النشاط الإنساني، بل دون سائر أوجه النشاطات الاقتصادية الأخرى ( كالتجارة والصناعة)، بأنها أساس الاستقرار والحضارة والتنمية، وقد تمارس ابتغاء المثوبة من الله سبحانه وتعالى، وهذا ظاهر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يوضح أهمية هذا العمل ويتضح هذا بصورة رائعة حين نعلم أن مثوبة الزارع والفارس ممتدة إلى ما بعد الموت وصدقة جارية إلى يوم القيامة .. ففي رواية : ( فلا يغرس المسلم غرساً، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة )(22).
ولقد اهتم الإسلام في تشريعاته كثيراً بأمر الزراعة، وخاصة في المناطق الخالية – كما سنوضحه فيما بعد ..
/3/ إن أفعال الصحابة كلها تدل على الاهتمام بالزراعة وتنميتها والمحافظة عليها
وليس أدل على ذلك مما جاء في وصية الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – في كتابه لواليه على مصر، قال له : ( وتفقد أمر الخراج ما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في جباية الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب الأرض) (23).
تقلص البقعة الزراعية وهدى الإسلام في زيادتها والمحافظة عليها …
من المتفق عليه بأن مصر – مثلاً – تبلغ مساحتها مليون كيلو متر مربع، وأن المساحة التي يستفاد بها هي المنطقة في وادي النيل ودلتاه، وهي تبلغ 4.5% فقط من إجمالي المساحة، ولذلك – ومع الزيادة السكانية المستمرة، فإن مساحة الرقعة الزراعية تتقلص وتنكمش يوماً بعد يوم، ولهذا قامت خطط التنمية الشاملة على أساس زيادة مساحة الأراضي الزراعية من ناحية، ووقف الانفجار السكاني من ناحية أخرى … وعلى الرغم من خطط التنمية المستمرة، فإن البلاد لم تصل إلى هذه النتيجة بعد، بل ما زالت التحذيرات المستمرة يومياً من الانفجار السكان وإهدار الموارد، وخاصة مياه النيل .. الخ، كانت الخطة الخمسية الأخيرة تهدف إلى زيادة الرقعة المستخدمة لتصل إلى 25 % من مساحة مصر الإجمالية، لكننا لم نصل إلى هذا الرقم بعد…
يأتي الإسلام – بما سن من تشريعات – ليعطي العالم كله البداية الحقيقية لحسن الاستفادة من الأرض، والعمل على الانتفاع الحقيقي من الموارد البشرية والطبيعية المتاحة، وذلك بإفساح الطريق أمام القادرين على العمل ليأخذوا مكانهم الصحيح وسط دولاب العمل، ليس عن طريق التوظيف ولكن عن طريق التمليك وشتان بين الاثنين.
(أ) إحياء الموات : ويقصد به إحياء الأرض الموات.. وهو أن يعمد شخص إلى أرض لم يتقدم عليها ملك لأحد فيحييها بالسقي أو الغرس أو البناء فتصير بذلك ملكه ..
وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر إحياء الأرض الموات إنما هو عودة للمبدأ القديم الذي بدأت به ملكية الأرض في الدنيا .. ففي بداية تعمير الأرض عند بدء الخليفة كان المبدأ الذي يجري به العمل أن كل أرض عمرها أحد الناس وأصلح شأنها وجعلها قابلة للانتفاع فهو أحق بها، وهذا المبدأ من عطايا الفطرة البشرية .. وقد عبر الفقهاء عن استغلال قشة الأرض عن طريق تعميرها بالزرع والغرس بالإحياء اقتباساً من قول الحق تبارك وتعالى : { وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } [يس : 33].
ثم جاءت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لتحفز الأفراد إلى التعمير والتنمية ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : ( من أعمر أرضاً ميتة ليست لأحد فهو أحق بها) (24).. وقال صلى الله عليه وسلم : ( من أحيا أرضاً ميتة فهي له )(25) .. وقال صلى الله عليه وسلم : ( من أحاط حاطاً على أرض فهي له )(26) .. وقال عليه الصلاة والسلام : ( من سبق إلى ما لم سبقه إليه مسلم فهو له )(27).
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن الإحياء وتحقيق التنمية وعمارة الأرض إنما هو هدف في حد ذاته قبل أن كون وسيلة للملكية، وأن الإسلام يستغل فطرة الإنسان التي فطره الله عليها – من حب التملك – في تحقيق الهدف المقصود، وهو إعمار الأرض والاستفادة بها ومنها ..
ولعل أهم ما يمكن تحقيقه من وراء تشريع إحياء الموات ما يلي :
(1) حفز الأفراد على العمل والقضاء على البطالة، باستغلال الطاقات المعطلة في عملية إحياء الأرض، فلو تم توجيه طاقات الشباب المتعطلين والذين يشكون من البطالة إلى هذه الوجهة لرأينا العجب العجاب، بشرط توفير البيئة المناسبة لهم وعدم قتلهم وقتل آمالهم البيروقراطية والروتين الحكومي الذي قتل كثيراً ممن قبلهم.
(2) زيادة رقعة الأرض المنتجة، وزيادة القدرة المادية والمالية للدولة(28)، وهي الهدف الذي تنشده الدول قاطبة – صغيرها وكبيرها غنيها وفقيرها – وهو ما نسعى إليه لتحسين الأوضاع الاقتصادية للعالم الإسلامي …. ففي عملية الإحياء استفادة كبيرة من الموارد الطبيعية المعطلة، واستفادة أكبر من الطاقات البشرية المعطلة وتوجيهها الوجهة السليمة.
(3) ويمكن القول: إنه بالنظر إلى المساحات الشاسعة القابلة للزراعة – والتي يتمتع بها العالم الإسلامي – فإنه يمكن للأقطار الإسلامية، أو المؤسسات المالية الإسلامية التي تملك القدرة على الإحياء والاستصلاح الزراعي، أن تقوم بهذا العمل في ظل تنسيق وتكامل اقتصادي إسلامي، متخذة من أحكام الإسلام في إحياء الموات – والتي يرجع إليها في كتب الفقه – دليلاً لها، خاصة مع وجود المساحات الشاسعة القابلة للزراعة بالرغم من ضآلة المزروع فيها.
وإذا كانت بلدان العالم الإسلامي تعاني من النقص الحاد في الحبوب الغذائية – وأهمها القمح – فإنه يمكن لها مع التخطيط الاقتصادي السليم – بعد عملية إحياء الأرض الميتة – أن يستفاد بهذه المساحات الشاسعة في تأمين الغذاء لكل مناطق وأفراد العالم الإسلامي .. ويكفي أن نعلم – على سبيل المثال – أن بالسودان وحده ما يزيد على (200) مليون فدان صالحة للزراعة، لكن تنقصها الأيدي العاملة وحسن الاستفادة والتمويل اللازم .. وهذا مثال واحد فقط، فما بالنا ببقية بلدان العالم الإسلامي ؟!!!
(ب) التحجير :
التحجير هو أن يسبق شخص إلى أرض من أراضي الموات المعطلة التي ليست لأحد فيقيم حولها سوراً، أو أحجاراً، أو حفراً، أو أية علامة، تدل على قصد إحيائها (29). فهذا الشخص المحتجر تثبت له الأحقية في الأرض التي قام بتحجيرها، ولكن يسقط حقه فيها إذا لم يقم بإحياءها خلال ثلاث سنين .. وهذا ما أكدته الروايات الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعن طاووس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عادى الأرض لله وللرسول ثم لكم من بعد، فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لمحتج حق بعد ثلاث سنين ) (30).وروى عن سلم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال – وهو على المنبر – : ( من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين، وذلك أن رجالاً كانوا ينجرون من الأرض ما يعلمون) (31).
والناظر في أحكام التحجير في الفقه الإسلامي يجد أن الإسلام يعمل على التنمية الزراعية، ويحث الأفراد على سرعة المبادرة إليها، وإلا ستكون حيازتهم لتلك الأرض مهددة بالسقوط إذا مرت عليها المدة الشرعية، وهي ثلاث سنوات، فتوفيت التحجير بمدة أمر له فوائد عديدة جمعتها عبارة صاحب التكملة الثانية للمجموع بأنها ( تدفع المسلمين إلى التسابق في استخراج خيرات الأرض واستنباط معادنها وإصلاح تربتها وتأهيل مهجورها وتعمير خرابها .. وذلك قوة للمسلمين وقوة لهم على عددهم، ومصادر أعمال لعاطليهم، وتوسيع رقعة مساكنهم، وما نشطت شركات الكفار وتسابقت تستعمر بلاد المسلمين إلا لتعطيلهم هذه الأحكام الشريفة، وتخلفوا عن غيرهم في مجالات التعمير والبناء لهجرهم تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم .. وصدق الله العظيم : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [طه : 124].
(ج) الإقطاع الشرعي :
هو جعل بعض الأراضي الموات مختصة ببعض الأشخاص، فيصير البعض أولى بها من غيره، على ألا كون لأحد اختصاص بها، وبمعنى آخر : هو أن يمكّن الإمام فرداً أو جماعة من الانتفاع بأرض – ليست عامرة ولا يد لأحد عليها – ليحييها ويعمرها.
ومما يدل على مشروعية الإقطاع الشرعي ما يلي :
1- ما رواه أبو داود عن علقمة بن وائل عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً في حضر موت ( باليمن).
2- أقطع النبي عليه الصلاة والسلام الزبير، حضر فرسه، فأجرى فرسه حتى قام ثم رمى بصوته، فقال : ( أعطوه من حيث بلغ صوته ).
3- عن بلال بن الحارث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه العقيق أجمع.
4- عن ابن سيرين قال : أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار ( يقال له سلط) وكان يذكر من فضله أرضاً، قال : فكان يخرج إلى أرضه تلك فيقيم بها الأيام ثم يرجع، فيقال له : لقد نزل بعدك القرآن كذا وكذا، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، قال فانطلق الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : إن هذه الأرض التي أقطعتنيها قد شغلتني عنك فاقبلها مني فلا حاجة لي في شيء يشغلني عنك، فقبلها النبي صلى الله عليه وسلم فقال الزبير : يا رسول الله أقطعنيها إياه.
هذا ويلاحظ أن الإقطاع الشرعي السابق ليس من قبيل عطايا الملوك وجوائزهم، وإنما يخضع لقيود وقواعد شرعة منها :
1- إن من أقطع أرضاً وتركها ثلاث سنين ولم يعمرها بطلت قطيعته، والدليل على ذلك ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ عبد الله بن عمر بن العاص] أن رسول الله أقطع لأناس من مزينة، أو جهينة، أرضاً فلم يعمروها، فجاء قوم فعمروها، فخاصمهم الجهنيون، أو المزينون، إلى عمر بن الخطاب فقال : ( لو كانت مني أو من أبي بكر لرددتها، ولكنها قطيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال : من كانت له أرضاً ثم تركها ثلاث سنين فلم يعمرها فعمرها قوم آخرون فهم أحق بها).
2- إن الإقطاع يكون على حسب قدرة الشخص المقطوع له . وهذا ما قال به الفقهاء، ويؤيد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلاد بن الحارث المزني العقيق أجمع، فلما كان عهد عمر قال له : إن رسول الله لم يقطعك لتحجره على الناس، إنما أقطعك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي.
ونعتقد أن أحكام الإقطاع الشرعي السابقة لو تمت بين البلاد الإسلامية وبعضها، وبينها وبين المؤسسات المالية الإسلامية، لأسفر ذلك عن تقدم كبير خاصة في مجال الزراعة وتحقيق الأمن الغذائي لبلدان العالم الإسلامي الكبير(32).
وفي ضوء ما تقدم يمكن القول، بأنه لو تم تطبيق هدي الإسلام لرأينا زيادة كبيرة للرقعة الزراعية في بلدان العالم الإسلامي، خاصة تلك التي حباها الله تبارك وتعالى بموارد بشرية وطبيعية متميزة، ولتحولت الزيادة السكانية من شر يهدد الاقتصاد إلى خير يزيد الأمن الغذائي داخل تلك البلدان، وعندي أنه لو تم توجيه جزء من المصروفات التي تنفق على الحملات الإعلامية لتنظيم الأسرة وتحديد النسل، أقول : لو تحولت هذه المصروفات إلى إعانات للعاطلين ورفع مستواهم المهني وشراء مستلزمات الزراعة وإعطائهم الفرصة لإثبات أنفسهم عن طريق تيسير عمليات الاستصلاح الزراعي ومنحهم المكافآت وعقود التمليك، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن .. فلقد أصبح العالم الإسلامي عبئاً على العالم كله، عالم متخلف متسول غذاؤه من أهل الشمال أو أهل اليمين .. والحكمة تقول : ( من لا يملك قوته لا يملك حريته).
فهل نظل ننظر إلى المستقبل بعين واحدة، فقط إننا بحاجة إلى تصورات أفضل وأكثر تفهماً لقدراتنا الذاتية حتى يمكننا الخروج من عنق الزجاجة.. فالأرض ليست شحيحة وليست عقيماً، وإنما العقم في الأفكار والتوجهات، ثم الإصرار على الخطأ الذي نسير فيه دون محاولة لإصلاح ذلك الخطأ..
ثانياً : الزكاة .. :
الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة التي لا تقوم إلا بها وعليها، وإذا كان لكل ركن خاصية يتميز ها، فإن خاصية ( الزكاة) تتجلى في بُعدها الاقتصادي والاجتماعي، فهي تندرج في إطار العلاقة الأفقية التي تجمع بين العباد في مختلف شؤونهم الحياتية والمادية، ولا تنحصر فقط – كباقي العبادات الأخرى – ضمن العلاقة القوية التي تعنى بشؤون العباد تجاه خالقهم.
وللزكاة دورها المهم في النواحي الاقتصادية داخل الدولة … ونتوقف هنا مع دورها في حفظ الأمن الغذائي داخل الدولة، وهو دور لو أحسن استغلاله لما رأينا في الدولة الإسلامية جائعاً ولا محروماً.
وواجب الدولة – كما يقول علماء الدين وعلماء الإسلام – هو : ( حراسة الدين وسياسة الدنيا) وإن إقامة الزكاة داخل المجتمع يدخل ضمن حراسة الدين من ناحية، وسياسة الدنيا من ناحية أخرى.
ولما كان الله سبحانه وتعالى غني عن الخلق، فإنه أمرهم أن يعطوا حقه في المال إلى عباده المحتاجين .. يقول الحق تبارك وتعالى : { وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ } [النور : 33].وعليه فقد جاء قول علماء الإسلام : ( عن حق الله في التصور الإسلامي هو حق المجتمع).
يقول الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة : 103].وهذا خطاب عام لكل حاكم، وليس خاصاً لنبي صلى الله عليه وسلم – كما يدعي البعض –.
يقول الإمام القرطبي في تفسيره : ( أما قولهم : إن هذا خطاب للنبي، فلا يلحق به غيره، فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مآخذ الشريعة متلاعب بالدين)(33).
إن الزكاة تمثل أهم الأدوات المالية لمعالجة ( مشكلة الفقر) والاحتياج، وهذا يظهر في أن 25% من الزكاة مخصص مباشرة للفقراء والمساكين، وإذا أضفنا إليهم مصارف( المؤلفة قلوبهم) و(في الرقاب والغارمين وابن السبيل) نجد أن النسبة تصل إلى 75% من مصارف الزكاة، وكلها موجهة لمعالجة الفقر.
ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الزكاة مورداً إلزامياً ثابتاً ومستمراً لا يتأثر بما يمكن لدولة توفيره من الدعم، وإذا كان مستوى الفقر يتزايد عالمياً ليصل إلى 50% من عدد السكان، فإنه هنا في مصر – كمثال للدول الإسلامية – وصل إلى 25%، وعلى الرغم من أن الدولة تخصص /12/ مليار جنيه سنوياً لمواجهة الفقر، إلا أنه يظل مبلغاً لا يكفي .. والحل هو : الزكاة .. الزكاة.
وعلى الرغم من إخراج بعض المسلمين لزكواتهم طواعية، فإنه يوجد عدد آخر لا يزكون أموالهم، مما يخل بالتوازن في مشاركة المواطنين في الأعباء المالية العامة، وهو الأمر الذي يسلتزم وجود هيئة شرعية تقوم على أمر الزكاة – من حيث جمعها وإنفاقها في المصارف الشرعة.
وقد قدرت إجمالي المبالغ التي يمكن جمعها من الزكاة، كحصيلة فعلية، بحوالي (17)مليار جنيه مصري، وهو مبلغ لا بأس به (34).فلو أمكن توجيه هذا المبلغ لخدمة الفقراء والمساكين عن طريق تدبير عمل لهم يحقق مورداً ثابتاً على الأقل لأمكن خفض نسبة الفقر بصورة كبيرة في سنوات قلائل ..
أو كما ورد في مثل صيني : ( إذا أعطيت فقيراً سمكة فأنت أطعمته ليوم واحد .. وإذا علمته الصيد فأنت تطعمه طوال الحياة).
إن ما يمكن قوله بهذا الصدد، هو ضرورة قيام مؤسسة غير حكومية بالإشراف على شؤون الزكاة، مع وضع جدول زمني للاستفادة المثلى من أموال الزكاة .. والتي سوف تزداد سنوياً ولن تقل – حتى يمكن التخلص من الفجوة الغذائية المستمرة، توصل دول العالم الإسلامي إلى مرحلة تأمين متطلباتها الغذائية المتزايدة، وهنا فقط يمكن الحديث عن زيادة سكانية فاعلة ومؤثرة، وزيادة سكانية تحقق الخير وترفع مستوى دول العالم الإسلامي … أما أن نظل نراوح في أماكننا بحثاً عن حلول تقليدية عفا عليه الزمن، فهذا لا يجوز، بل المطلوب هو تأمين الاحتياجات الغذائية لجميع السكان، ثم يبدأ الحديث بعدها عن المشروعات العملاقة أو غيرها مما تسمعه صباح مساء دون تحقيق أي عائد ملموس !!
إن موارد الزكاة عند توزيعها تشكل للمستحقين لها طاقة شرائية تعبر عن نفسها في شكل طلب على المواد الاستهلاكية، وأهم هذه المواد هي المواد الغذائية اللازمة والأساسية لاستمرار الحياة، ولو أننا حققنا فائضاً من خلال هذا التوزيع لاستثماره في مشروعات إنتاجية صغيرة تعمل على رفع مستوى المستحقين لها اقتصادياً .. ولو خطونا خطوة أكبر ووجهنا عائدات الاستثمار في مجال أموال الزكاة إلى النواحي الزراعية واستصلاح واستزراع بعض الأراضي الزراعية، لأمكن بالفعل – وليس بالكلام – تحقيق قدر مهم من الأمن الغذائي، على الأقل لهؤلاء المستحقين لأموال الزكاة.
وعلى هذا الأساس، فإن الزكاة لا ينبغي أن تعطي أو تصرف لمستحقيها في شكل سيولة نقدية لأجل الاستهلاك المباشر فقط – وهو ما يحدث غالباً ويكرس الفقر أكثر فأكثر – بل يجب أيضاً تخصيص جزء من موارد الزكاة للاستثمار.
الزكاة بهذا لا تقدم إعانات استهلاكية فقط، بل تخلق أيضاً وحدات إنتاجية مستمرة .. وهذا ما يتوافق مع مذهب الداعين إلى إغناء الفقير العمر كله، وهي أيضاً – وفي نفس الوقت – تخفف الأعباء عن الدولة، وترفع عنها التضخم الذي تعانيه بما يمكنها من الاستثمار الأمثل لمواردها ويحقق لها في نهاية الأمر أمنها الغذائي، وهو أغنى الآمال في الوقت الحاضر(35).
ثالثاً : التنظيم الإسلامي للأسواق ومنع الاحتكار :
(أ) مبدأ الإخوة الإسلامية وآثاره :
هل يسهم منع الاحتكار في تحقيق الأمن الغذائي … ؟ الجواب هو : نعم.
وبادئ ذي بدء، فإنه لا يمكن الحديث عن أصول الأمن الغذائي دون الاسترشاد بما قامت به الدول الكبرى في ذلك الشأن، وليس القصد من الدول الكبرى هنا – الدول الأوروبية أو أمريكا أو غيرها، ولكن القصد هنا بما قامت به الدول الإسلامية كأكبر دولة مساحة وحضارة – على مستوى التاريخ القريب.
لقد بدأت نواة الدولة الإسلامية من المدينة المنورة، تلك المدينة الصغيرة التي لم يتخيل أحد وقتها أن تكبر وتتحول إلى عاصمة لدولة الخلافة الراشدة، ثم كبرت الدولة واتسعت فتوحاتها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، حتى قال أحد الخلفاء – وهو هارون الرشيد – وهو ينظر إلى غيمة تسير في السماء .. (أمطري حيث شئتي فسوف يأتيني خراجك).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : كيف وصلت الدولة الإسلامية إلى هذا المستوى من الغنى والاستقلال .. ؟
والإجابة بسيطة جداً – وتكمن في تنفيذ الأخلاقيات التي دعا إليها الإسلام في كافة شؤون الحياة من أولها إلى آخرها.
ومن أهمها أخلاقيات التعامل اليومي بين الأفراد من ناحية وبين الدولة وجيرانها من ناحية أخرى، ثم إتباع ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من أوامر ونواهٍ ..
لقد جاءت تعاليم الإسلام في النواحي الاقتصادية واضحة قاطعة لا تحتمل أي لبس، ولكن بسبب ما حدث للأمة من تراجع عن أوامر القرآن والسنة النبوية جاءت النتائج واضحة، وهي تراجع الأمة كلها وتخلفها وتأخرها !!
وإذا كنا في الصفحات السابقة قد رأينا تنظيم الإسلام لعملية الحرث والغرس والزراعة عموماً، فإن ناتج هذه المهنة يعرض في الأسواق وتتحكم فيه ظروف العرض والطلب وظروف جلب المنتجات الغذائية إلى الأسواق الداخلية … وقد ظهرت نظريات اقتصادية تنادي بالحرية الاقتصادية، وأن التاجر حر في أن يمنع السلعة، بل هو المتحكم في ثمن السلعة – وهذه المذاهب مذاهب مادية محضة .. أما تعاليم الإسلام فإنها تخاطب في المسلم ضميره وإيمانه
ولهذا .. حرم الإسلام الاحتكار .. كما سنعرض له فيما يلي :
بداية .. لا يجوز لمسلم أن يستأثر نفسه على غيره عند الحاجة، بل يقتضي إيمانه بالله تعالى أن لا يترك غيره جائعاً وهو شبعان، كما جاء ذلك في التوجيهات النبوية الشريفة ..
يقول الني صلى الله عليه وسلم : ( ليس بالمؤمن الذي يبيت وجاره إلى جنبه جائع )(36)
ويقول صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه) (37).
وقد أتى الإسلام النتائج العظيمة، بتوجيهاته الاقتصادية، حتى ترى في تاريخ الإسلام المشرق أن الناس تخلوا عن الأخلاق الرذيلة والمذمومة ( مثل : الشح والبخل) وأصبحوا إخواناً متحابين مترابطين آمنين يبذلون أموالهم بكل سخاء ورخاء، وقد روى الإمام البخاري عن نموذج حي للتسوية الاقتصادية في حياة الصحابة الكرام رضي الله عنهم، كما جاء عن الأشعريين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم في المدينة، جعلوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم ) (38).
وهذا أعلى مقامات الأخوة الإسلامية، وهو ما يقلل كثيراً من حدة الأزمة الغذائية، بل لو استطعنا أن نصل إلى هذا المستوى الأخلاقي الإيماني لما وصلنا إلى الحال التي نحن فيها الآن .. !!
(ب) منع الاحتكار :
إذا كنا قد علمنا بأهمية الإخوة الإسلامية، فإن الوجه الآخر والسيء هو الاحتكار، ولهذا، فقد حرمه الإسلام نهائياً، بل جاءت التوجيهات النبوية التي تدل صراحة على حرمته، والتي تدل بصراحة على أن المسلم لا يجوز له أن يكون من المحتكرين المستغلين، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن : ( المحتكر ملعون )(39) وفي حديث آخر : ( من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجزام والإفلاس )(40)، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من احتكر فهو خاطئ ).
إن هذه الأحاديث لتدل على تحريم الاحتكار للسلع والخدمات، وذلك للمصلحة الفردية والأنانية المفرطة، ولأن الاحتكار من شأنه التضييق على الناس في حاجاتهم الضرورية ( مثل : الطعام والكساء وغير ذلك من الأشياء المستهلكة) .. وذلك غير جائز.
تعريف الاحتكار :
قال الإمام الشوكاني : الحكرة، هي حبس السلع عن البيع .. ويقول ابن عابدين : اشتراء الطعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء .. وعرفه الإمام الغزالي في الإحياء بقوله : فبائع الطعام يدخر الطعام ونحوه ينتظر به غلاء الأسعار.
وجمهور العلماء اتفقوا على أن الاحتكار حرام وممنوع، لما ورد من الأحاديث الصحيحة في ذلك، ففي صحيح الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من احتكر حكرة، يريد أن يغني بها على المسلمين، فهو خاطئ).والخاطئ : العاصي الآثم.وعند ابن ماجد ( كتاب التجارة، باب الحكرة والجلب)، قوله صلى الله عليه وسلم : ( الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ).
وقد ذكر الإمام الغزالي عن بعض السلف أنه كان بواسط فجهز سفينة حنطة ( قمح) إلى البصر وكتب إلى وكيله : بع هذا الطعام يوم يدخل البصرة ولا تؤخره إلى غد، فوافق سعة في السعر، فقال له البحار : لو أخرت جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة، فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام : يا هذا، إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وإنك قد خالفت، وما نجد أن الربح أضعافه بذهاب شيء من الدين، فقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال كله فتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من إثم الاحتكار، كفافاً لا عليّ ولا لي(41).
ولهذا، فإن تحريم الاحتكار يؤدي إلى سيولة داخلة الأسواق في الدولة سيولة في الموارد، مما يؤدي بالتالي إلى كثرة العرض وقلة الطلب، فتنخفض أسعار المواد الغذائية، وانخفاض الأسعار يؤدي – بالتالي – إلى قدرة جميع فئات الشعب على الشراء، وهو يعني قلة الأزمات الاقتصادية داخل الدولة … وهو ما يؤدي في النهاية إلى توافر السلع الغذائية، ويسهم في تحقيق الأمن الغذائي، وهو الهدف النهائي المنشود.
إن هذا التنظيم الإسلامي إنما يربط المسلمين بعضهم ببعض ويحقق الإخوة الإسلامية الكاملة، وهو ما يرفع الحواجز المصطنعة بين دول العالم الإسلامي جمعيها، ويؤدي إلى التكامل وإنهاء حالة التقاطع الموجودة حالياً، ولو أننا استطعنا أن نعمم هذه الأفكار الإسلامية الصحيحة، وتخلينا عن الأفكار الاقتصادية البراجماتية، لما وصلت بنا الحال إلى ما وصلت إليه الآن.
رابعاً : إعلاء قيمة العمل :
يأمرنا الله سبحانه وتعالى بالمشي في مناكب الأرض والانتشار فهيا وابتغاء فضل الله .. يقول الحق تبارك وتعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك : 15] وقال سبحانه: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [الجمعة : 10].
وإذا تأملنا القرآن الكريم وجدناه ينبه عقولنا ويلفت أنظارنا إلى استغلال الثروات والموارد الطبيعية – من الماء والهواء والبحار والأنهار والنبات والجماد والشمس والقمر – لأن كل ذلك مسخر لمنفعة الإنسان، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم : 32-34].
ويقول الحق سبحانه وتعالى : { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [النحل : 5].يقول عز من قائل : { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [الحديد : 25].
وفرض الله سبحانه وتعالى على العباد الاكتساب لطلب المعاش ليستعينوا به على طاعته تبارك وتعالى .. فالعمل واجب على كل قادر، فلا يحل لمسلم أن يقعد عن العمل والكسب، مع القوة والقدرة عليه وفي ذلك – يقول صلى الله عليه وسلم : ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى )(42)، أي ذي قوة وقدرة ..
ولقد تكفل الحق تبارك وتعالى بالرزق لكل كائن حي يدب على الأرض وجه الأرض، فقال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود : 6] … ولكن اقتضت حكمة الله وإرادته أن يكون رزق الإنسان منوطاً بالسعي والعمل، فأمره الله بذلك : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [الملك : 15].
وقال سبحانه وتعالى : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [الأحقاف : 19].فمن تقاعد وتقاعس عن العمل كان جديراً بأن يحرم، لأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة !!
* النشاط الاقتصادي – عبادة :
هكذا حث الإسلام المسلمين على ممارسة النشاط الاقتصادي بكل صورة ومختلف طرقه – من زراعة وصناعة وتجارة – واحتراف بشتى أنواع الحرف، وكل عمل أو وظيفة، في إطار الحدود الشرعية، يؤدي إلى إنتاج سلعة أو خدمة للناس، يعتبر عبادة، ويبارك الإسلام هذا العمل الدنيوي من حيث إنه ينفع الناس ويجمل حياتهم ويعمر بلادهم، وذلك إذا صحت نية العامل من حيث أنه لم يشغله عن ذكر الله تبارك وتعالى ولقاءه وحسابه، لأن هذا النشاط يمكن المجتمع من حماية نفسه وأداء رسالته وإعلاء كلمة الله في الأرض، وهذه الفضائل لا سبيل إليها إلا بالمال، والمال يأتي من السعي والعمل، فلا بد أن يكون العمل حلالاً حتى يرفع المجتمع إلى الرقي المادي والسمو الروحي في آن واحد .. فالعمل والنشاط الاقتصادي هذا المعنى عبادة، ولا عجب أن قدمه الله تعالى على الجهاد في سبيل في كتابه العزيز فقال الله تبارك وتعالى : { وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [المزمل : 20].
وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم : ( عن الله تعالى يحب المؤمن المحترف ) (43).قال المنادى في شرح الحديث : ( إن الإنسان إذا تعطل عن عمل بشغل باطنه بمباح يستعين به على دينه كان ظاهره فارغاً ولم يبق قلبه فارغاً، بل يعيش الشيطان فيه ويبيض ويفرخ، فيتوالد فيه نسله توالداً أسرع من توالد كل حيوان(44).
فالعمل واجب لإغناء النفس حفظ ماء الوجه من أن يراق بالسؤال .. ومن توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيمة ما يأكله الإنسان من عمل يده، ما رواه المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) (45).
وليس في توجيهات الإسلام وهدى النبي صلى الله عليه وسلم تصنيف للأعمال، يجعل بعضها محترماً والآخر وضيعاً … على ما اعتاد الناس أن يصنفوا الأعمال، وليس هنا من هدى الإسلام في شيء .. فالأعمال كلها سواء، ما دامت تجمع الشروط السابق ذكرها ( من النفع والاحتساب وعدم المخالفة الشرعية) .. فمثلاً ذلك الذي يميط الأذى عن الطريق – بتنظيفه وجمع القمامة منه – يؤدي عملاً عظيماً، وهو على شعبة من شعب الإيمان .. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بضع وستون – أو سبعون – شعبة أدناها إماطة الأذى عن الطريق وأرفعها قول : لا إله إلا الله ).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عرضت عليّ أعمال أمتي، حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن )(46).
ويطلب أبو برزة من النبي صلى الله عليه وسلم نصحاً فيقول : يا نبي الله : إني لا أدري نفسي تمضي أو أبقى بعدك فزودني شيئاً ينفعني الله به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( افعل كذا .. افعل كذا .. إماطة الأذى عن الطريق) (47).
هكذا رفع الإسلام من شأن العمل، حتى لا يبقى أحد في داخل هذا الباب، والإسلام رافعاً لشأن السعي على المعاش وإعطاف النفس، يجعل من سعي الإنسان على نفسه أو أهله طلباً للتعفف، فهو في سبيل الله.فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنده ونشاطه، فقالوا : يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها، فهو في سبيل الله .. وإن كان خرج يسعى رياء ومتاجرة، فهو في سبيل الشيطان)(48) …
فالعمل أياً كان هذا لعمل – ليس عيباً، ولا يعاب الشخص به .. هكذا يقرر الإسلام، وذلك حتى لا يبقى في المجتمع أي متعطل أو فقير.
وهكذا يرسم الإسلام أصول تحقيق الأمن الغذائي، أو على الأقل الوصول إلى هذا الأمن .. فأمننا الغذائي بالفعل في خطر والأمة الإسلامية بالتالي كلها داخلة في هذا الخطر، وتشير البيانات والإحصاءات أن ما بين 30 و100 مليون شخص يعانون الآن من عملية الموت البطيء بسبب الجوع والعوز، ويكفي أن نعرف أن معدلات وفيات الأطفال الذين تقل أعمارهم عن ست سنوات يزيد على الخمسين في المائة.كما تشير هذه المعدلات إلى أنه من بين كل خمسة أطفال قبل سن الخامسة والنصف يموت يومياً طفل مسلم، بسبب نقص التغذية، وفي بعض المناطق يموت أربع من كل سبعة أطفال قبل بلوغ سن الرابعة …
وتشير الإحصاءات أيضاً إلى أن 50% من مجموع السكان في الدول الإسلامية لا يحصلون على القدر الكافي من الطعام، ويتعرضون دائماً للمجاعات، وقد زاد الأمر سوءاً قيام الدول الصناعة الغنة بتصدير علف الحيوان كغذاء لإنسان – كما أشار بذلك أحد التقارير الصادرة عن البنك الدولي، وقد ترتب على هذا الوضع المتردي في تلك البلدان ارتفاع الإصابة بأمراض فتاكة ( مثل : الكساح والبرص وغيرها) مما اضطر هذه الدول على الاستدانة للحصول على الواردات الغذائية حتى بلغت الديون المتراكمة عليها مبلغاً ضخماً يصعب سداده في ظل الإمكانات المتاحة، مما يهدد حاضرها ومستقبلها، وذلك بسبب سيطرة الدول الدائنة على صانع القرار في الدول المدينة، حتى أصبحت معظم الدول الإسلامية – بلا مبالغة – أسيرة لمن يقدم لها الطعام .. ( فمن لا يملك طعامه لا يملك قراره) (49).
وسوء التغذية في بلدان العالم الإسلامي أمر معترف به ولا جدال فيه، وقد أدى سوء التغذية هذا إلى الحد من وجود قوى عاملة منتجة ومبدعة، إضافة إلى نقص في متوسطات الأعمار حتى بلغت بين 32-42 سنة مقابل 74 سنة، في دول غرب أوربا.
في ضوء هذا الوضع الخطير الذي تعيشه هذه الدول الإسلامية (والعالم العربي)، فإنه لا بد من وقفة عاجلة وحاسمة، لأن هذه الدول ليست فقيرة في مواردها الطبيعية أو طاقاتها البشرية أو المساحة الزراعية القابلة للاستصلاح بها.ولكنها – للأسف – فقيرة في أسلوب الإدارة، وفي السياسة العامة التي تحكم الأوضاع بها .. وإذا كانت الدول العربية والإسلامية تحتفظ في باطن الأرض بالكنوز الهائلة والموارد الطبيعية ووفرة المياه والمساحات الشاسعة من الأراضي، فإن الأمر هنا يحتاج إلى وقفة أمينة وصادقة مع النفس ومع الآخرين لمعرفة الأسباب التي أدت إلى هذا الاختلال المريع ..
الخاتمة ..
أمننا الغذائي .. في خطر ..
إذا كان العالم الإسلامي يعاني اليوم من مشكلات عديدة في جميع مجالات الحياة، فإن قضية الأمن الغذائي تأتي في مقدمة هذه القضايا، وذلك نظراً لانعكاساتها السلبية وأخطارها التي تهدد هوية الأمة ووجودها ودورها الإيجابي الفاعل .. وإن قضية الأمن الغذائي لأي أمة من الأمم قضية في غاية الخطورة، بل هي سلاح فتاك تستخدمه الدول ضد بعضها للحصول على تنازلات في مجالات السياسة الداخلية والخارجية أو لأهداف معينة أخرى ..
ومن هنا كان الواجب على الأمة الإسلامية، بل فرض عين عليها أن تتنبه لهذا الموضوع وأن تبادر لبناء جسور التعاون والتواصل والتنسيق فيما بينها لاستثمار طاقات العالم الإسلامي وثرواته وتحقيق الأمن الغذائي في إطار تنموي مستقل ومتكامل مبني على أساس إسلامي بالأخذ بالأساليب العلمية والتقنية الحديثة في العمل والإنتاج، كالتزام إسلامي لضمان نجاح التنمية الاقتصادية، ومن ثم رفع المعاناة عن شعوب العالم الإسلامي ودفع الأخطار عنه.
ويمكن القول .. بأن أي تنمية لا تتماشى مع قيم ومبادئ المجتمعات الإسلامية لن يكتب لها النجاح، وكما بيّنا، فإن القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة قد أوضحت أصول الأمن الغذائي، ولو التزم العالم الإسلامي بها – بل المسلمون كأفراد – لما وصلت بنا الحال إلى ما وصلت إليه الآن من تخلف وتشرذم وتراجع حضاري ..