سقوط الخلافة الرد على المصيبة الكبرى

في الثامن والعشرين من رجب لعام 1342 للهجرة، الموافق للثالث من آذار/مارس عام 1924، خُلع آخر خليفة شرعيّ حقيقيّ للأمّة الإسلاميّة في إسطنبول، وسقطت آخر حكومة تحكم بشريعة الله سبحانه وتعالى بعد أن تم تركها واستبدال القبضة الحديديّة للعلمانية بها، وفي الذّكرى السنويّة لهذه المصيبة العظيمة نجد أنّه لزاما علينا أن نقف على فداحة الخسارة التي أصابتنا في القرن المنصرم، وأن نقف على الإجراء الشرعيّ المطلوب منّا تُجاه تلك الكارثة.

مركزيّة الخلافة في حياة المؤمنين:

تختلف الخلافة عن أي أنظمة حكم أخرى، فهي ليست موضوعة بحسب مفاهيم طبقة النّخبة في المجتمع، ولا مُلّاك الأراضي كالنّظام الإقطاعيّ ولا تشبه النّظام الملكيّ، لم تُبن الخلافة على أفكار الطّبقة المفكّرة الّتي لا صلة بينها وبين مشاكل الناس البتّة كما في النّظام الشُّيوعيّ، ولم تُبن الخلافة على الحلّ الوسط بين رجال الدّين ومصالحهم وبين مُفكّري النّظام الرّأسماليّ، بالعكس من هذا كلّه، فإنّ الخلافة نظام ربّانيّ من لدن خالق الكون سبحانه وتعالى، وعمادها العدل، وأساسها الرّحمة، ونظامها الحكمة، وقد طُبِّقت في أوّل أمرها على يد سيّد الخلق محمّد صلوات ربّي وسلامه عليه، حينما أقنع قبائل يثرب بأن ينصروه ويقيم سلطان الإسلام بين ظهرانيهم، فطَبّق الأنظمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، والقضائيّة والعقوبات، وأنظمة الحكم الّتي شرّعها الله تعالى في محكم كتابه وبسنّة رسوله e، فألّف بين القلوب، وأقنع العقول، وتجاوز الجزيرة لما وراءها بنظام الحقّ والعدل.

وحين شارفت حياة الرّسول e على الانتهاء، أخبر صحابته رضوان الله عليهم فيما رواه مسلم في كتاب الإمارة: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ تَكْثُرُ» قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ».

لقد وضع الصّحابة رضوان الله عليهم مسألة الخلافة في الذّروة من اهتماماتهم، فقدّموا بيعة الخليفة على دفن الرّسول e، وعلى إنفاذ بعث جيش أسامة، وجعلوها أهمّ الواجبات، هذا التّقديم، وشدّة الاهتمام هذه توحي لنا بمدى أهمّيّة مسألة الخلافة، والحثُّ على سرعة اتّخاذ الإجراء ببيعة الخليفة ليرعى شئون المسلمين وأهل الذِّمّة، ويُبيّن عِظَم أن لا يخلو أيّ زمان من الخليفة.

وتحت راية وحكم الخلفاء الراشدين، دام عصر العدل والازدهار، وانتشرت كلمة الإسلام حتّى طبقت الآفاق، وحتّى في العصور التي تلت عصر الخلفاء الرّاشدين، فإنّ بعض الأخطاء في تطبيق نظام الحكم تسرّبت للنّظام، إلّا أنّ الأمّة بقيت موحّدة، بقيت محميّة، وبقيت شريعة الإسلام تحكمها، كما أنّ الخلافة قامت بحماية وتأمين العدل لرعايا الدّولة من أهل الذِّمّة من غير المسلمين، الذين عاشوا ما ينيف على الألف والثّلاثمائة عام تحت ظلّ الخلافة لهم ما لنا من الإنصاف، وعليهم ما علينا من الانتصاف!

لكن في أواخر القرن التّاسع عشر، أوائل القرن العشرين، تسرّبت لنظام الحكم في الدّولة أحكام مصدرها التّشريعات الغربيّة، ممّا أضعف الحكم الإسلاميّ، وبدأت مفاهيم الدّيمقراطيّة واللّيبراليّة والعلمانيّة تتسرّب لعقول المسلمين، جرّاء الجهود المتواصلة لأعداء الأمّة المتربّصين بها.

وزاد الطّين بلّة تسرّب الأفكار القوميّة – تلك الفكرة الّتي تُمثّل الشّكل الحديث للقبليّة المقيتة الّتي قال فيها رسول الله e في الحديث الذي رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» – وقد تُوِّجت هذه الهجمات الفكريّة بوصول الخائن مصطفى كمال لسدّة الحكم وهدمه للخلافة في 1924م.

فقدان الدِّرع الواقية للأمّة:

لقد شاهدنا نحن المسلمين بأمِّ أعيننا مآسيَ لا تُحصى منذ هدم الخلافة، شاهدنا سفك دمائنا على أيدي أعدائنا في طول البلاد وعرضها، من جبال الفلبّين إلى أودية كشمير، إلى غابات القرم، شاهدنا أحد أقدس مقّدّساتنا – بيت المقدس- مُحتَلاّ من قِبل الصّهاينة، وسمعنا آهات الثّكالى وبكاء اليتامى وأنين الجوعى يفتق جِراحاتٍ أنّى لها أن تندمل! لقد شاهدنا كيف أنّ “العالم الحرّ” يفرض نموذج اقتصاده المدمّر، ونظامه الاجتماعيّ الأجوف على أرض المسلمين، رأيناهم ينهبون ثرواتِنا، ويُضعِفون مؤسّساتِنا الاجتماعيّة!

والأسوأ أنّ هذا “العالم الحرّ” يدعم أسوأ من في هذه الأمّة ليُعيِّنهم قادة ورؤساء، وما هم إلّا رجالٌ يَفتقدون لكلّ معاني الشّجاعة، والأخلاق، وما هم إلاّ العمود الفقريّ الذي يستند عليه الغرب في استعماره للمسلمين! لدى هؤلاء الحكّام كامل الأهبة لخدمة أعداء الأمّة في مشاريعهم الّتي ينهبون فيها الأمّة ويعيثون في الأرض فسادا، مقابل رشوات من الوعود بالتّمكين والثّراء مقابل خيانة هؤلاء الحكام لله تعالى ولرسوله e.

وسط كلّ هذه الفوضى، ينظر المسلمون بلهفة للحلّ، وظهرت لديهم الكثير من النّظريّات حول كيفيّة إنهاضهم، منها مثلا أنّه لو صلح المسلمون وقاموا بهذا الشّيء أو بذاك، لتوحّدت بلادهم، ولصلُح حال وُلّاة أمورهم! علينا أن لا ننسى أنّ شِرعة ربِّ العالمين سبحانه الّتي بيّنت لنا كلّ شيء، حتّى أحكام دخول الخلاء، لم تتركنا بغير هدى في قضيّة تغيير حالنا والنّهوض من كبوتنا، حيث قال رسول الله e: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ» رواه مسلم.

التّحدّي الّذي على الأمّة أن تواجهه ليس أن تبتدع طرائق مختلفة لنهضتها ما أنزل الله بها من سلطان، بل التّحدي الّذي على الأمّة أن تواجهه هو أن تقوم بوضع تلك الدّرع الواقية في مكانها، باتباع طريقة الرّسول e الّتي سار عليها لتحويل دار الكفر إلى دار إسلام وإقامة الدّولة الإسلاميّة في المدينة المنوّرة، بهذا تَستأنِف الأمّة حياتها الإسلاميّة.

عمل الصّحابة:

في هذا الزّمن الفريد الّذي نحياه في تاريخ هذه الأمّة، حيث إنّه لم يسبق للأمّة أن عانت من غياب الخليفة وغياب دولة الخلافة هذه المدّة الطّويلة، هذا الغياب الذي ولّد مصائب لا نهاية لها، في خِضمّ هذا الامتحان لهذه الأمّة تبرز فرصة عظيمة ينبغي اقتناصها، فلدينا فرصة لم يسبق اغتنامها إلاّ من قِبَل الصّحابة رضوان الله تعالى عليهم، فننغمس في صراع سَبَقَ لرسول الله e وصحابته الكرام أن خاضوه، ولم يُتَح لغيرهم من المسلمين خوض غمار مثل ذلك العمل حتّى يومنا هذا، فنخوض هذا الصّراع لنقيم دولة الإسلام كما أقامها رسول الله e، فيتمكنّ الدّين على أيدينا ويستخلفنا الله في الأرض كما استخلف الّذين من قبلنا!

علينا أن نشتغل بدراسة سيرة الرسول الأكرم e لنستنبط منها طريقة التّغيير التّي بدأت بمجموعة قليلة القوّة من المؤمنين، تعرّضت للاضطهاد والأذى في بِطاح مكّة، تحوّلوا إلى قادةِ أعظمِ حضارة نشأت في تاريخ البشريّة، هذه الفرصة السانحة ليست مجرد فرصة لنوال رضوان الله تبارك وتعالى، بل إنّها تنفيذ لفرض من أعظم الفرائض في الدّين، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ eيَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».رواه مسلم.

ميتة الجاهليّة تعني أنّه يحرم أن يعيش المسلمون بدون خليفة له بيعة في أعناقهم، ممّا يعني أنّ إيجاد الخليفة فرض على الأمّة، وهذا مما أجمع عليه علماء الأمّة، ونذكر منهم على سبيل المثال: الإمام النّووي والقرطبيّ والجُوينيّ والتّفتازانيّ.

وعد من الله تعالى:

عودة الخلافة وعد من الله تعالى، أخبرنا به رسول الله e، في الحديث الطّويل الذي يصف أنواع الحكم المختلفة الّتي ستخضع لها الأمّة الإسلاميّة، ومنها الأنظمة الجبريّة التي نعيشها الآن والتي يتبعها نظام الحكم على منهاج النبوة: «… ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» رواه أحمد.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممّن يتشرّفون بالعمل لتحقيق وعده تبارك وتعالى، ليكون ذلك في ميزان حسناتنا يوم القيامة، واللهّ نسأل أن يُّوحِّد هذه الأمّة تحت قيادة خليفة مُبايَع بيعة شرعيّة يُطبِّق فيها أحكام الشّرع لينشر العدل ويحكم بين النّاس بالقسط، فيقيم دار الإسلام بعد فقدانها في الأرض، فتكون منارة هداية ومشعل نور يضيء بها المسلمون للبشرية ظلماتها.

﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [الصف: 8]

 

التاريخ الهجري :24 من رجب 1438هـ
التاريخ الميلادي : الجمعة, 21 نيسان/ابريل 2017م

حزب التحرير
كندا

 

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة