جريدة الراية: هل حديث الطاعة يؤسس لما يسمى “الاستبداد الديني” أم أنه جزء من الحكم الراشد؟

 

Raya sahafa

2017-04-05

جريدة الراية:

هل حديث الطاعة يؤسس لما يسمى “الاستبداد الديني”

أم أنه جزء من الحكم الراشد؟

عن حذيفة بن اليمان قال: “قلت يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر قال نعم قلت هل وراء ذلك الشر خير قال نعم قلت فهل وراء ذلك الخير شر قال نعم قلت كيف قال يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس قال قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك قال تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع” رواه مسلم.

لطالما حصل إشكال في فهم هذا الحديث وفي فهم واقعه ومناطه، وما أكثر استشهاد شيوخ البلاط اليوم به لشرعنة حكم الطغاة وخاصة في الجزيرة العربية. بل لقد استخدم الحديث تاريخيا بشكل سلبي من البعض لتبرير الظلم والاستبداد، ولذلك أحببت تناول هذا الأمر بشكل عميق ودقيق لتجليته بشكل تام. إن إسقاط الحديث على حكام اليوم، الطغاة، لهو جريمة بشعة، وهو ضرب بل جَلد للأمة المكلومة… بدينها! وهو نوع من تترّس الحكام الفسقة والعملاء بالدين ونصوصه. يحاولون تخدير الأمة بدينها! يريدون كسر إرادتها بوضع الدين الذي تقدسه في وجهها. إنهم بهذا الإسقاط للأدلة على غير مناطها، خلافا للفهم التشريعي الصحيح، يقولون للناس: عليكم بالصبر على حكامكم وعدم الخروج عليهم، فهم قدَرُكم، والخروج عليهم خروج من الدين وتمرد على الله! !!ولتوضيح الأمر وإزالة اللبس ثمة ناحيتان:

الأولى تتعلق بمناط الحديث، والأمير الذي يذكره.

والثانية تتعلق بفهم الحديث فهمًا تشريعيا صحيحًا في سياق بقية الأدلة الشرعية.

أما فيما يتعلق بمناط الحديث، فهو ينطبق فقط على الحاكم الشرعي ومن ينوب عنه. لأن الطاعة الواجبة في الإسلام هي طاعة صاحب الصلاحية، وليس أي صاحب نفوذ وقوة. وصلاحية الحكم لا يملكها أحد بتاتا من دون تفويض من الأمة، لأن الأمة هي صاحبة السلطان فلا يجوز أن يحكمها إلا من ترضاه حاكما لها ونائبا عنها. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه أبو داود: «مَنْ بَايَعَ إِمَامًا، فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا رَقَبَةَ الْآخَرِ». ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر رواه البخاري «فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ». وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ» رواه البخاري. فهذه الأحاديث صريحة في أن الطاعة مترتبة على البيعة الشرعية التي تتم من قبل الأمة وبرضاها. حتى النبي صلى الله عليه وسلم لم يتول الحكم بمجرد أنه صاحب رسالة… فخلال ثلاثة عشر عاما مارس صلى الله عليه وسلم أعمال النبوة من دعوة وتبليغ وإرشاد ونصح للناس دون أن يمارس أعمال الحكم، من قضاء وإعلان حرب وأخذ مال وتعيين للأمراء، ولم يستلم الحكم إلا بعد أن بايعه أهل السلطان وأصحاب الشأن من أهل المدينة، فصار بذلك حاكما يمارس أعمال الحكم بجانب أعمال النبوة. وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على أن الخلافة والحكم والإمارة إنما تنعقد بالبيعة من الأمة، أو ممن يجسد اختيارها ويعبر عن رضاها.

والشرط الثاني في الحاكم الشرعي هو أن يحكم بشرع الله كاملا. فلو اجتمعت البشرية كلها على تنصيب حاكم ومعهم المسلمون ولكنه لا يحكم بالشرع فلا تجب طاعته. فشرعية الولاية متوقفة على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾. فالآية قدمت طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على طاعة ولي الأمر، ليعلم الجميع أن أساس الحكم والسلطان هو الشرع، فالآية تبين أن الشرع هو المرجع والأساس الوحيد لرعاية الشؤون.

بناء على ما تقدم فإن حكام اليوم لا ينطبق عليهم حديث السمع والطاعة بتاتا، ومن يزعم ذلك فهو دجال مفترٍ على دين الله. حكام اليوم عملاء للكفار المستعمرين، ولا يمثلون المسلمين، ولا يحكمون بشرع الله، بل يحاربونه أو يتمسحون به نفاقا، كحكام الحجاز وفارس. حكام اليوم لم تغفل الأدلة الشرعية ذكرهم، بل ذكرتهم وبينت الواجب تجاههم. فحكامنا اليوم هم حكام الملك الجبري المذموم الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه في الحديث الذي رواه الإمام أحمد. حكام اليوم نصبهم الغرب حراسا للأوضاع الاستعمارية المزرية التي أقامها بعد هدمه الخلافة. فالواجب شرعا هو خلعهم وإزالة كياناتهم القطرية ودساتيرهم الجاهلية وحدود سايكس بيكو التي يحرسونها إمعانا في تمزيق الأمة.

أما الناحية الثانية والمتعلقة بفهم الحديث:

فالحديث كما بينا، إنما ينطبق على الخليفة ومن ينوب عنه، وهو أمير شرعي ومكلف بتطبيق الشرع نيابة عن الأمة. ببيعتها له يملك السلطان وصلاحية ممارسة رعاية الشؤون وأعمال الحكم. وكما هو معلوم لا إمارة من دون طاعة، ولا نظام من دون انضباط. من هنا جعل الشرع الطاعة واجبة لرئيس الدولة ولكل أمير شرعي فيما تعلق به. والطاعة التي أمر الله بها ليست الطاعة العمياء بل الطاعة الواعية، فقد جعل الشرع لطاعة الحاكم الواجبة شرطين:

1- أن لا يأمر بمعصية، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

2- أن يكون أمره ضمن اختصاصه. فلا طاعة له في غير ما تعلق بعمله من حيث هو حاكم. فله أن يُلزم الناس اتخاذ رقم لكل سيارة تُعرَف به، ولكنه لا يملك الحق في إلزام الناس العمل عشر ساعات في اليوم أو أقل أو أكثر.

وبما أن الشرع قد أناط بالحاكم رعاية الشؤون وإقامة الحدود، فإن ممارسة ذلك العمل فيه جباية للمال من زكاة وخراج وجزية وضريبة في ظروف خاصة بينها الشرع. ويتضمن عمل الحاكم إنزال العقوبات على من يخالف النظام، فلا يحافظ على نظام ولا يقام بمجرد إيمان الناس به، ولا بالوعظ فقط. ومن إنزال العقوبات “الجلد” أو الضرب الوارد في الحديث. فقد يوقع الخليفة أو القضاة عقوبة شرعية على أحدهم وقد تتضمن جلدا، وقد يكون الحكم صحيحا وقد يكون خطأ. فالقاضي يحكم بالظن وبناء على القرائن، وقد يصيب ويخطئ. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» رواه البخاري. بل قد بيّن لنا صلى الله عليه وسلم أنه هو نفسه حين يقضي بين الناس أنه إنما يقضي بناء على ظاهر الأمور. ذلك لأنه إنما يحكم بصفته بشرا، عن أم سلمة رضي الله عنها، أنه صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلاَ يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»، متفق عليه.

ما تقدم يبين أن الجلد وأخذ المال هو من أعمال الحكام، شرط أن يكون تطبيقا للشرع، وأن أعمال الجلد وأخذ المال قد تكون في نظر الحاكم شرعية وقد يراه المحكوم ظلما. فهل يتمرد المحكوم على الحاكم لأنه يرى أنه جلد ظلما أو أخذ منه زكاة أكثر من اللازم؟! كلا لا يجوز له أن يتمرد على الدولة، ولا أن ينزع يدا من طاعة، لأنه يشعر بالظلم، أو لأنه ظلم فعلا، سواء فعل الحاكم ذلك بقصد أم بغير قصد. فلا يجوز للناس أن يخرجوا على الدولة بناء على الشبهة، فلا يستقر حكم ولا يستتب رشد بهذا. ما المطلوب هنا؟ هل يرضى الناس بالظلم ويصبرون عليه؟

للجواب على السؤال يُنظر:

فإن كان ظلم الحاكم من أخذ المال ومن جلد الظهر قد وقع في إطار تطبيق النظام ولكن حصل خطأ في فهم الواقع فحصل الظلم، أي إنه ظلم غير مقصود وليس هو سياسة دولة ولا سمة حاكم وإنما هو ظلم بنظر طرف ما فقط، إن كان كذلك يُنظر: فإن كان هناك وجه لإثبات خطأ عمل الحاكم يرفع الأمر للمظالم كي تحكم فيه وترفع الخلاف والظلم. وإن كان ما وقع من ظلم في أمر يعتمد على قرائن ومعطيات تنتج عن الاجتهاد فما على المرء هنا سوى الصبر. فالحاكم هنا قضى بعلمه وعمل بما فهمه وفق الأدلة وبناء على المعطيات والقرائن والبينات الشرعية من شهود وإقرار. أما في حالة ما لو كان جلد الظهر وأخذ المال ظلما سياسة للحاكم وممارسة ثابتة فلا يجوز السكوت عنه. صحيح أنه لا يجوز الخروج عليه بالسلاح طالما أنه يحكم بالإسلام ويعتمد شرع الله حصرا قوانين للدولة ورعاياها. ولكن النهي عن عدم الخروج عليه بالسلاح ليس أمرا بالصبر على ظلمه، ولا دعوة لقبول هذا الظلم، بل هي للمحافظة على كيان الدولة. فالشرع على الرغم من نهيه عن الخروج بالسلاح على هذا الحاكم وأمره في هذه الحالة بمداومة طاعة الدولة والتزام قوانينها إلا أنه قد أمر في آيات وأحاديث كثيرة أن يحاسب الحاكم الظالم وأن يؤخذ على يده سياسيا وقضائيا. بل عدّ السكوت عن الحاكم الظالم إثما ومنكرا وتهلكة، ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾، وقال ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» رواه الترمذي، وقال ﷺ: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» رواه مسلم. لا بل قد أوجب الشرع إقامة حزب سياسي واحد على الأقل، وجعل مهمته الأولى محاسبة الحكام، فقال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. لأن المحاسبة الفعالة التي يريدها الإسلام هي المحاسبة التي تزيل الظلم وتقوم الاعوجاج وليست المحاسبة الشكلية. ففي الوقت نفسه الذي لا يجوز لنا فيه حمل السلاح على الخليفة الظالم بل يجب التزام قوانين الدولة أوجب الشرع محاسبة الحاكم سياسيا إن خالف النظام الذي كلف بتطبيقه. وقد بين الشرع أنه في حالة عدم استجابة الحاكم للنصح واستمراره في ممارسة الظلم وفي مخالفة النظام أنه يجب أن ينظر القضاء في أمره ويعزله. لأن الفسق وانتفاء العدالة مخل بشرط العدالة وهو شرط للبيعة وشرط لاستمرارها. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا طَاعَةَ، لِمَنْ عَصَى اللَّهَ» رواه ابن ماجه. أي لا ولاية لفاسق. فالنهي ليس فقط عن طاعته في المعصية، بل هو نهي عن توليته أو استمراره في الولاية. ومن الأحكام الفقهية المعروفة أنه لا ولاية لفاسق. فالحاكم الذي يتخذ الظلم سياسة ومنهجا ويخالف الشرع لا يجوز أن يستمر في الحكم، بل يجب عزله. والذي يُثبت ظلمه ومخالفته للشرع هو القضاء وليس الأهواء. فقد ألزم الشرع المسلمين عند الاختلاف بين الحكام والمحكومين أن يرجعوا إلى الشرع، ولا يكون الرجوع إلى الشرع إلا من خلال تحكيم القضاء.

هذا هو واقع الحديث، وهذا هو فهمه. وهو من دلائل عظمة التشريع الإسلامي وفعاليته، وهو يتضمن مفهوما منتجا، وليس سلبيا. وهو أساس لاستقرار الحكم الراشد وليس تكئة للحكم الثيوقراطي.

نسأل الله تعالى أن يعيننا على إقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة الموعودة بأسرع وقت حتى نسعد بتطبيق شرع الله ونحمله للناس لنخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.

بقلم: منذر عبد الله

المصدر: جريدة الراية

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة