سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” الحلقة الرابعة عشرة: ثلاثة مفاصل أساسية تحدد مفهوم الخلافة

سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة الرابعة عشرة: ثلاثة مفاصل أساسية تحدد مفهوم الخلافة

 

ولو أردنا إحاطة مفهوم الخلافة من الزوايا التي تُجَلّيه، لوجدنا مفاصله الأساسية ثلاثة مفاصل،

أولها: مفصل حق التشريع لله وحده، (يمنع البشر من سن القوانين، ويمنع الاحتكام للقوانين الوضعية، ويمنع قيام أي أشكال للحكم غير الخلافة)، وقد جَلَّيْنَا في باب: القوة النظرية الكامنة وراء الإجماع، والتي تعطيه خاصية القطع، حدود هذا المفصل الستة التالية التي تحصر حق التشريع بالله وتمنع البشر من سن القوانين:

  • ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ
  • النذارة بالوحي، والأمر باتباع الوحي حصرا، ومنع اتباع الأهواء في التشريع.
  • قيام الحجة بالنذارة
  • اكتمال الدين وإتمام النعمة، والرضى بالإسلام دينا
  • لم يترك الناس سُدى في أي قضية
  • سيحاسب الناس على مثقال الذر من أعمالهم،

وثانيها: ومفصل الأحكام التي نزلت في الكتاب لتحقق مقاصد معينة حين تطبق، (راجعها في باب: إقامة الخلافة من مقاصد الشريعة الكبرى)، تلك التي لأجلها نزل التشريع، (فلا يطبق المسلمون في حياتهم إلا الإسلام، ويرفضون كل شرعة غيره)،

وثالثها: ومفْصل طريقة تطبيق هذه الأحكام، على ثلاثة أنواع:

  • أحكام منوطة بالفرد تنظم
  • علاقته مع نفسه ومع خالقه، يطبقها بوجود أو بغياب الدولة، كالعقائد، والعبادات، والأخلاق، والمأكولات والملبوسات، والامتناع عن الحرام، وتغيير المنكر (وهو غير فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، والعمل في الأحزاب السياسية للتغيير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأحكام واجبة (مع مراعاة العينية والكفائية في الوجوب) في ظل وجود الخلافة أو في عدم وجودها وإن كان وجود الخلافة ييسر أمر تطبيقها، فضلاً عن ارتباطها بالخلافة من ناحية الإلزام بما كان واجباً منها.
  • وعلاقته بغيره وبالمجتمع، كفض الخصومات أمام القضاء، والتعاملات المالية وفق أحكام الإسلام تنظمها الدولة، وكجهاد الدفع، ودفع الصيال[1] (وكلاهما في ظل وجود وعدم وجود الخلافة أيضا)، وجُلُّ هذه العلاقات بالغير لا يوجد إلا بوجود الدولة، وتأثير غياب الدولة واضح في كل العلاقات، (فمثلا: لاحظ أن العلاقات التجارية في غياب الدولة ستمر في دائرة النظام الاقتصادي غير الإسلامي، فتمر الحوالات والأرصدة بالمصارف الربوية، وعليها تعرفة جمركية، ويستدين التجار من البنوك أحيانا، ويجري فض الخصومات وفق النظام القضائي الوضعي، وهكذا، وعلى ذلك فقس كل معاملات الناس يدخلها باطل الأحكام الوضعية حتى لو كانت بين اثنين!).
  • وعلاقته بالدولة لا توجد في الواقع إلا بوجود الدولة، وذلك كمحاسبة الحكام، والبيعة والسمع والطاعة لولي الأمر، وأمر الحاكم بالمعروف ونهيه عن المنكر، والنفير، ومنح الأمان للمستأمن، فهذه الأحكام يقوم بها الأفراد والجماعات بشروطها إذا كانت هناك دولة وما كان واجباً منها يدخل تحت قاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
  • وأحكام منوطة بالأحزاب، كالدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتغيير، ومحاسبة الحكام، والقوامة على فكر المجتمع.
  • وأحكام منوطة بالخليفة أي بالدولة، لا توجد إلا بوجود الدولة، وهي جل الإسلام، وذلك كالجهاد لحمل الدعوة إلى العالم[2]، وإقامة الحدود، وقتال أهل البغي، وقتال المرتدين، وعقد المعاهدات، والإلزام بالتبني ظاهراً وباطناً، وإنزال الناس قهراً على أحكام الشرع، وإقامة النظام الاقتصادي والعقوبات والسياسة الداخلية والخارجية، والقضاء…الخ، وصلة الأفراد والجماعات بهذه الأحكام هي وجوب إيجاد الخليفة الذي يطبقها وفقاً لقاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) والأدلة مستفيضة في ذلك.

وكما سنبين بإذن الله تعالى، فإن جل هذه الأحكام يتوقف على وجود الدولة، وبالتالي فإن مجموع هذا كله يشكل مفهوم الخلافة!


[1] تروي كتب التاريخ أن الفترة التي أعقبت قتل الأمين بن هارون الرشيد، محرم 198هـ، وتنصيب المأمون، الذي بقي في خراسان يدير الدولة عن بعد من مركزها حتى سنة 204هـ، ثم قدم بغداد بعد ذلك، خلال تلك الفترة الطويلة ماجت البلاد بالفتن، واعتدى الصيال على الناس، فانتشر الفساد الشديد على يد فساق الجند والشطَّار، وأظهروا الفسق وقطعوا الطريق وأخذوا النساء والغلمان علانية وأخذوا يفرضون الإتاوات قهرًا، وقامت ثورة الحسن الهِرش، وأغار على التجار ونهب القرى، وثار ابن طباطبا في الكوفة، وأكمل الثورة أبو السرايا، وسار عبدوس بن محمد في أربعة ألاف مقاتل فهزمهم أبو السرايا، وهاج الطالبيون في الكوفة، فانتهبوا وأحرقوا بيوت بني العباس في الكوفة، وحج الناس بلا إمام في تلك السنة، وفي سنة 200 توجه هرثمة بن أعين إلى أبي السرايا فانتصر عليه، وأحرق زيد النار بيوت العباسيين في البصرة، ولكنه هزم، وخرج في اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر، وخرج في بغداد المطوّعة بزعامة خالد الدريوش ضد الفساق والشطار، وتحرك الخوارج بإمرة مهدي بن علوان، وهكذا ماجت الأرض بالفتن في ظل غياب المأمون في خراسان، فهذا مثال على غياب الدولة وأثره في استقرار المجتمع وحفظ الدماء والأموال والأعراض والدين! تلك الدولة التي كانت منذ قليل شديدة القوة في عهد الرشيد! راجع كتاب التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر الجزء الخامس، ص 185 فما بعدها.

[2] بينما جهاد الدفع غير مرتبط بالخليفة، فهو فرض سواء وجد الخليفة أم لم يوجد

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة