سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” الحلقة التاسعة والعشرون: الزوايا والاعتبارات التي يجب بحثها حين الإجابة على السؤال: لمن الحق بالتشريع؟ – ج3

 

سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة التاسعة والعشرون: الزوايا والاعتبارات التي يجب بحثها حين الإجابة على السؤال: لمن الحق بالتشريع؟ – ج3

 

ومن زاوية الخير والشر، أي من زاوية أثرها في نظر الإنسان، ومن حيث الإقدام عليها والإحجام عنها،

فزاوية التحسين والتقبيح هي من باب الكمال والجمال، وأما زاوية الخير والشر فهي من باب النظرة العقائدية، أو الأخلاقية، أي تسليط قيم الإنسان على الفعل والشيء لوصفه بالخير والشر،

فالإنسان أطلق على ما يضره أو ما يكرهه من الأفعال بأنه شر، وأطلق على ما ينفعه وما يحبه من الأفعال بأنه خير من أثر ذلك عليه بغض النظر عن الحسن والقبح، فإنه ليس وارداً عنده في هذه الحالة، (أي الزاوية التي ينظر من خلالها هنا هي زاوية أثر قيمه في صف الفعل، لا زاوية كمال الفعل أو نقيض كماله) وبناء على هذه النظرة يُقْدِمُ على الفعل ويُحْجِمُ عنه، فجاء التصحيح لهذه النظرة بأن الفعل لا يقال إنه خير أو شر حسب الكراهية والحب أو النفع والضر، وإنّما قياس كونه خيراً أو شراً هو مرضاة الله تعالى، وتسليط القيم على ذلك الفعل لوصفه بالخير أو الشر، وهذه القيم تتفاوت، وهي خارجية عن الفعل لذلك فالفعل بنفسه لا يحمل صفات الخير أو الشر، فالقتل هو القتل يوصف بالخير أو بالشر بما يكتنفه من عوامل خارجية، كقتل العدو والصديق، وبما تسلط القيم على ذلك الفعل مثل التفريق بين قتل الذمي والمعاهد، وبين قتل الحربي، وبين قتل من يسمون اليوم بالمدنيين في دار الحرب وبين قتل المقاتلين في ساحة القتال، فهذه كلها تتسلط عليها قيم أتت من الخارج لوصف بعضها بالخير والآخر بالشر، وليست من ذات الفعل فتأمل!.  لذلك فالقيم هي التي يوصف من خلالها الفعل بالخيرية أو الشرية، وهذه القيم هي عين قولنا: الشرع هو من يحكم بالخير أو الشر، أما القيم البشرية، فإن جعلها أساسا للحكم بالخير أو الشر هو دور، وهو باطل، لأنها هي نفسها بحاجة لتوصف بالخير أو الشر، يعني لو فرضنا أن القيم الرأسمالية هي التي ستسلط على الفعل لوصفه بالخير أو الشر، وهذه القيم نتاج العقل، وقد اتفقنا على أن العقل لا يستطيع الحكم على الفعل بالخير أو الشر إلا بتسليط قيم خارجية، فهذه القيم الخارجية إن أتت من العقل نفسه فهي بحاجة لما يصفها بالخير أو الشر أو يجعلها صالحة لوصف الفعل بالخير أو الشر وهذا دور والدور باطل ومستحيل! فوجب أن يؤخذ الحكم بالخير أو الشر من الشرع لا من العقل!

فهنا البحث من حيث مقياس الخير والشر الذي تعارف النّاس عليه وليس من حيث الفعل نفسه. والحقيقة أن الأعمال التي تقع من الإنسان، لا توصف بأنها خير أو شر لذاتها، لأنّها مجرد أفعال فقط ليس لها وصف الخير أو الشر باعتبار ذاتها، وإنّما جاء كونها خيراً أو شراً بناء على اعتبارات خارجة عن ذات الأعمال، فقتل النفس الإنسانية لا يسمى خيراً ولا شراً، وإنما يسمى قتلاً فقط. وكونه خيراً أو شراً إنّما جاء من وصف خارج عنه. ولذلك كان قتل المحارب خيراً، وقتل من يحمل التابعية أو المعاهد أو المستأمن شراً، فيكافأ القاتل الأول، ويعاقب القاتل الثاني، مع أنهما عمل واحد ليس فيه تمييز. وإنّما الخير والشر آت من العوامل التي تسير الإنسان للقيام بالعمل والغاية التي يهدف إليها من القيام به. فالعوامل التي سيرت الإنسان للعمل والغاية التي يهدف إليها هما اللذان عيّنا وصف العمل بالخير والشر، سواء أحب الإنسان أو كره، وسواء أصابه منه نفع أو ضرر. إذن، فوصف الفعل بالخير أو بالشر للشرع لا للبشر، ويصدق ذلك قول الله تبارك وتعالى:  ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة]، فالحق سبحانه سيحاسب الناس يوم القيامة على مثقال الذر من أعمالهم بوصفها خيرا أو شر، وهو من قرر لهم ابتداء خيرها من شرها، وسيحاسبهم على اتباع ما أمر والانتهاء عما نهى، فالوصف والحكم بالخير والشر إذن للشرع لا للعقل.

  • ومن زاوية المدح على الفعل أو الذم عليه، في الدنيا، ومن زاوية الثواب والعقاب عليه في الآخرة.

وأيضاً، فإنه لو ترك للإنسان أن يحكم على الأفعال والأشياء بالمدح والذم، لاختلف الحكم باختلاف الأشخاص والأزمان، إذ ليس في مقدور الإنسان أن يحكم عليها حكماً ثابتاً. ومن أجل ذلك يحكم فيها الله وليس الإنسان، يحكم فيها الشرع وليس العقل، إذ لا دخل للعقل بهذا الحكم من هذه الجهة. على أن المشاهد المحسوس، أن الإنسان يحكم على أشياء أنها حسنة اليوم، ثم يحكم عليها غداً أنها قبيحة، ويحكم على أشياء أنها قبيحة أمس، ويحكم عليها نفسها اليوم أنها حسنة، وبذلك يختلف الحكم على الشيء الواحد، ولا يكون حكماً ثابتاً، فيحصل الخطأ في الحكم؛ ولذلك لا يجوز أن يجعل الحكم بالمدح والذم للعقل، ولا للإنسان.

ولا يجوز أن يجعل إصدار الحكم بالمدح والذم لميول الإنسان الفطرية؛ لأن هذه الميول تصدر الحكم بالمدح على ما يوافقها، وبالذم على ما يخالفها، وقد يكون ما يوافقها مما يذم، كالزنا، واللواط، واستعباد الناس، وقد يكون ما يخالفها مما يمدح، كقتال الأعداء، والصبر على المكاره، وقول الحق في حالات تحقق الأذى البليغ. فجعل الحكم للميول والأهواء يعني جعلها مقياساً للمدح والذم، وهي مقياس خاطئ قطعاً؛ ولذلك كان جعل الحكم لها خطأً محضاً؛ لأنه يجعل الحكم خاطئاً مخالفاً للواقع، علاوة على أنه يكون الحكم بالمدح والذم حسب الهوى والشهوات، لا حسب ما يجب أن يكون عليه؛ ولهذا لا يجوز للميول الفطرية أن تصدر حكمها بالمدح والذم. وما دام لا يجوز للعقل أن يصدر حكمه بالمدح والذم، ولا يجوز للميول الفطرية أن تصدر حكمها بالمدح والذم؛ فلا يجوز أن يجعل للإنسان إصدار الحكم بالمدح والذم، فيكون الذي يصدر حكمه بالمدح والذم هو الله وليس الإنسان، وهو الشرع وليس العقل.

وعليه فالتشريع وسن القوانين لا بد أن يكون لله تعالى لا للإنسان ولا للعقل! ثبت ذلك بدليل الشرع، وثبت ذلك بالحجة العقلية،

والحمد لله رب العالمين.

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة