سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” الحلقة الأربعون: بمن ينعقد الإجماع؟

 

سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”

للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك

الحلقة الأربعون: بمن ينعقد الإجماع؟

 

هذا والمراد بالمجتهدين الذين يجب اتفاقهم، من كان موجوداً وقت وقوع الحادثة، أو طرح المسألة، ولا عبرة بمن سيوجد في المستقبل من المجتهدين، بل عليهم إن وجدوا: الاتباع، ولا عبرة بالمخالف بعد انقضاء مدة كافية للتقليب والنظر وانتشار الخبر عن الحادثة، ولأن النصوص المتلقاة عن الرسول ﷺ سبقت الإجماع، فإنه لا يتصور وجود أدلة من السنة تنسخ أو تعارض الإجماع[1]، كما وأن ما ينتقض به الإجماع ليس الرأي الشخصي لصحابي أو مجتهد حتى يقال: لم تصلنا كافة آرائهم، بل ينتقض بخبر (أي بحديث) لأن الإجماع يكشف عن دليل، فلا ينتقض حصول الإجماع إلا بوجود دليل نقيض[2] أو اجتهاد راجع لدليل ناقض، وحينها فلا بد من وصول خبر عن انتقاض الإجماع ورجوع الصحابة إلى الدليل، أو تمسكهم بما نقلوه إجماعا[3] كونهم يرونه هو الدليل المعتبر، وعليه فإن عدم نقل معارضة إجماعهم بدليل يكفي للتدليل على حصول الإجماع وقطعيته.

وعلى الرغم من هذا فإن الإجماع على وجوب نصب الخليفة، وعلى حرمة خلو الأرض من خليفة، تم في عصر الصحابة في وقائع مختلفة، وعلى مدى الأعصر اللاحقة لعصر الصحابة، لم يشذ عنه رجل يعتبر من أهل ذلك الفن (السياسة والفقه) ولم يشذ عنه من يُعتَبَرُ رأيُه، “فلا اعتبار لرأي من ثبت عليه الفسق أو الجهل أو لم يكن أهلا للفتيا، والحديث والآثار”[4]، خصوصا وأن هذا الإجماع مستند إلى أدلة متينة من الكتاب والسنة تشهد على وجوب ما حصل الإجماع عليه، فلا يعتد برأي مخالف لأن رأيه إنما يخالف الكتاب والسنة القطعيتين، وقد نقل لنا الإجماع على هذه المسألة علماء أكثر من أن يُحْصَوا، بل لم يَنْقُل أحدٌ من العلماء قولا يعتد به يخرم حصول هذا الإجماع، ولله الحمد في الأولى والآخرة.

وعليه، فإن إجماع الصحابة لا يعني إجماع آرائهم أو اتفاقها على أمر، وإنما في أحد وجوهه يعني كشفهم عن دليل لم يرووه لنا نقلا شفويا، أي لم يقولوا لنا (مجتمعين أو فرادى) قال ﷺ كذا وكذا، بل لشدة وضوح المسألة التي أجمعوا عليها، لم يحتاجوا إلى نقلها عبر نقل الحديث الدال عليها، ومثال ذلك:

لو شاهدت أحدهم يتكلم بجهاز الاتصال النقال اليوم، فأنت لن تشرح لشخص ثالث ما يفعله ذلك الشخص، بينما لو كان لدى شخصٌ جهاز اتصال نقالٌ قبل مائة سنة، وكان يتكلم فيه، فإن المسألة من الإبهام للناس بحيث يحتاج معها لشرح، لكنها اليوم لشدة وضوحها لا تحتاج لشرح، ويعتبر شرحها تكلفا، فهذه أولا.

ثانيا: ليس المعنى إجماع آرائهم، لأن الشرع لا يؤخذ إلا من الكتاب والسنة، فإجماعهم مستند إلى الكتاب والسنة وإنما طريقة النقل كما أسلفنا في النقطة الأولى.

ثالثا: والفرق بين إجماعهم واعتباره معتبرا وإجماع غيرهم مما لا يعتبر هو شبهة الاتصال بالرسول ﷺ لنقل الحكم عنه، لذلك فهم حصل لهم الاتصال، فنقلهم حجة، وما بعدهم من القرون لم يحصل الاتصال، فإجماع ما بعدهم من القرون متوقف على إجماعهم، فإن نقلوا الإجماع كابرا عن كابر، فبها ونعمت، مثلما نقلت الأمة جيلا عن جيل أن الرجال في الحياة الخاصة منفصلون عن النساء، ومثلما نقلت الأمة كابرا عن كابر جيلا عن جيل أن عدد ركعات الصلاة كذا، وأن سنة الفجر مؤكدة.

رابعا: الذين يحصل بهم الإجماع هم الصحابة الذين تواجدوا عند وقوع الحادثة، بشرط أن يكونوا من أهل الفن والصنعة المتعلقة بالحادثة، فمثلا إن كان الإجماع متعلقا بإقامة خليفة بعد رسول الله ‏ﷺ، وتقديم ذلك على سائر الفروض، فإن من تواجد في ذلك الموقف من أهل الفقه والدراية أجمعوا، ولم ينقل النكير عليهم من غيرهم، ولم يرد اعتراض على فعلهم على الرغم من أهميته، وبلوغه سائر الصحابة، وبيعة الصحابة للخليفة في المسجد بعد ذلك، فلم نجد نكيرا ولم نجد من يرو حديثا يخالف، لذلك يقال بأن الإجماع قد انعقد،

لذلك فالشاهد هنا حصول الإجماع ممن حضر الواقعة، ومن ثم هذه الواقعة من الأهمية والشهرة بمكان بحيث انتشر خبرها، ولم يرو عن أحد من الصحابة ما ينقضها أو يثبت حكما مغايرا لها، لذلك يقال في مثل هذه الأحكام أن الإجماع قد حصل فيها[5].


[1] اختلف الصحابة زمن الطاعون في دخول الأرض الموبوءة أو عدم دخولها، فتنازعوا في مفهوم القدر في ذلك، ثم عضد رأي بعضهم بعدم الدخول خبرٌ عن النبي ﷺ رواه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فبمجرد رواية الخبر اجتمع قول الصحابة على اتباع النص، فلا يتصور أن يجمعوا على خلاف ما ورد، وبالتالي فلا يتصور أن يأتي خبر بنقيض ما أجمعوا عليه بعد عملهم بحين، ثم لا يرجعوا عما أجمعوا عليه! فإذا ما عدمت هذه الصورة، فإن الباقي هو أن الإجماع لا ينخرم.

[2] من ناحية نظرية بحتة، لو تصورنا معارضة نقل جموع الصحابة لدليل من خلال إجماعهم، من خلال دليل آخر يخالف أتى به أحدهم، فإن ما يحصل هو فقط أن لا يسبغ على ما نقلوه صفة القطعية، ويقارع الدليل المخالف بالدليل الذي كشفوا عنه إجماعا، ويحصل الترجيح.

[3] ويستحيل حصول الإجماع على رأي وعلى نقيضه، وبالتالي فلا يقال: ينسخ الإجماع بإجماع!

[4]  مراتب الإجماع لابن حزم الأندلسي ص4

[5] لم يختلف الصحابة في السقيفة على وجوب نصب الخليفة، وإن اختلفوا ابتداء على أنه واحد، وقد ردوا رأي صاحب المشورة بالأميرين ولم يعملوا به، واختلفوا من هو الخليفة، أقرشي أم مدني، أبو بكر أم عمر أم أبو عبيدة، أم سعد، لكنهم لم يختلفوا في وجوب أن يكون على المسلمين خليفة، فافهم جيدا مناط الحكم الذي عليه حصل الإجماع والقطع.

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة