PDF

دروس للأمة في الذكرى المئوية لحركة الخلافة الهندية (1919-1924م) لحماية الخلافة

(مترجم)

إن من أعظم المصائب التي مرت على الأمة هي هدم الخلافة في 3 آذار/مارس 1924م (28 رجب 1342هـ). لقد كان هذا تاريخ اليوم الذي توقف فيه تطبيق شريعة الله سبحانه وتعالى وحكم القرآن في المجتمع. لقد كان هذا اليوم الذي خسرت فيه الأمة الإسلامية درعها الحامي وانكشفت فيه أمام ذئاب الكفار المستعمرين ليلتهموها. إن دمار الخلافة أرسل أمواجا من الصدمات للبلاد الإسلامية. فلم يكن باستطاعة المسلمين أن يتخيلوا العالم بدون خلافة، عالماً خالياً من حكم الله سبحانه وتعالى، عالماً يصغر فيه الإسلام أمام تعاليم العلمانية والديمقراطية. إن هذا اليوم الأسود في التاريخ رأى الأصوات تعلو ضد التخلي عن الخلافة، أبرزها كانت حركة الخلافة في شبه القارة الهندية. فهذه الحركة أسسها الإخوة علي، مولانا محمد علي جوهر ومولانا شوكت علي عام 1919، والتي استشعرت الخطة البريطانية التي تسعى لتدمير الخلافة العثمانية. في هذه المقالة، نهدف إلى استخلاص الدروس لتستفيد الأمة من هذه الحركة النبيلة.

  • الالتزام بالخلافة

إن الخلافة هي مركز الإسلام. والمسلمون طوال الـ 1400 سنة من تاريخهم الإسلامي فهموا دوما أن الخلافة من الالتزامات الأساسية في الإسلام والتي من دونها سيقتصر الإسلام على بضعة عادات وتقاليد دينية. ولطالما اعتبر علماء المسلمين في شبه القارة الهندية مؤسسة الخلافة التزاماً أساسياً. ومن مثل هؤلاء العلماء البارزين شاه ولي الله دهلاوي (1703 – 1762) والذي احترمه المسلمون من مختلف المذاهب الدينية. ومن أشهر أعمال شاه ولي الله رضي الله عنه كتاب (إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء)، والذي يناقش فيه بعمق مركزية الخلافة في الإسلام ومؤسساته. ففي الكتاب، يعرّف الخلافة بأنها “السلطة العامة التي تتولى ترسيخ الدين من خلال إحياء العلوم الدينية، وإقامة أعمدة الدين، وتنظيم الجهاد وما يتعلق به من إعداد الجيوش، وتمويل الجند، وتوزيع مستحقاتهم من غنائم الحرب، وإقامة العدل، وإقامة الحدود، والقضاء على الظلم، وتشجيع الخير ومنع الشر، وأنها تنوب عن رسول الله ﷺ” [1]

إن التراث العلمي لشاه ولي الله ورثه مؤسسو والأعضاء البارزون لحركة الخلافة. فقد تم الاتفاق على سلطته الشرعية في العلوم الإسلامية عند الحنفيين والصوفيين والسلفيين والمصلحين السياسيين والمفكرين مثل مولانا المودودي.

  • الأخوة في الإسلام

إن نموذج الدولة الوطنية الحالي غير ولاء وانتماء الناس إلى دولتهم. إلا أن الإسلام يتجاوز مثل هذه الحدود الوطنية وقواعد الولاء اعتمادا على مفهوم وفكرة الإسلام. وأفضل وصف لذلك قول رسول الله ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» [البخاري ومسلم]

ففي الوقت الذي يُبتلى فيه المسلمون بأفكار الوطنية البالية، فإن حركة الخلافة كانت ممثلة لأخوة المسلمين المتحدة حول العالم تحت جناح حاكم واحد وهو الخليفة. فهجوم على المسلمين في دلهي لا يختلف أبدا عن هجوم على المسلمين في تركيا وكلاهما سيناريوهات نتج عنها رد الفعل نفسه. فبما أن رسول الله ﷺ اعتبر الأمة الإسلامية جسدا واحدا، فكيف يمكن أن يكون هناك اختلاف في الرد على الآلام نفسها في اليدين والرجلين. فالحرب العالمية الأولى نجم عنها خسائر فادحة في الخلافة العثمانية. والأصوات من الهند التي تدعم إخوتهم المسلمين ما هي إلى انعكاس للفهم الحقيقي للأخوة الإسلامية.

فعندما وصلت أخبار شريف مكة ونيته بالثورة على الخلافة العثمانية الهند، رفض الإخوة علي أن يصدقا ذلك، معتقدين أنها كانت أخبارا كاذبة، وأنها إهانة للإسلام حتى الاعتقاد بمثل هذا الاحتمال [4]. وأعلنت لجنة خلافة كل الهند في أحد اجتماعاتها أنه يجب على الجنود المسلمين الهنود أن يرفضوا خدمة الحكومة البريطانية بأية حرب ضد تركيا مؤكدين أنه حرام على المسلم رفع سلاحه ضد أخيه المسلم. [5]

  • خلق هوية إسلامية غير قابلة للتفاوض

لقد كانت الهند جزءا من الخلافة حتى الاحتلال البريطاني في 1857، وما نتج عنها من ثورة المسلمين على البريطانيين. فتلك الفترة شهدت نهوض الوطنية الهندية لطرد البريطانيين. ومن الحركات الوطنية الهندية البارزة كانت المؤتمر الوطني الهندي (آي إن سي) والذي تم تأسيسه في 1885. وعلى الرغم من أن كلا الصراعين كانا ضد البريطانيين، إلا أنه لا بد من الانتباه أن المسلمين كانت لهم قضية أكثر نبلا لقتال وطرد البريطانيين، وهي بقاء الهند دار إسلام ومقاطعة من مقاطعات الخلافة. فوقف المسلمون بثبات متمسكين بهويتهم الإسلامية دون أية تسويات. وقد انضم المؤتمر الوطني الهندي ودعم قضية الخلافة، مؤمنا أن الطريقة الوحيدة لتجميع دعم المسلمين هي بالتحالف مع حركاتهم الوطنية.

وبينما عمل المسلمون مع الهندوس في كفاحهم ضد البريطانيين فإنهم لم يساوموا أبدا على هوية الإسلام أو على مفاهيمه. أما بالنسبة للتعاون مع الهندوس، فقد تم توضيح ذلك في فتوى أباحت الحصول على حلفاء سياسيين وعلاقات صداقة مع غير المسلمين الذين لا يعادون الإسلام، لكنها في الوقت نفسه شددت على قضية أن قيادة الكافر للمسلمين أمر محرم [6].

  • توحّد المسلمين من أجل قضية الخلافة

وقد أصبح المسلمون من مختلف المذاهب الدينية جزءا من حركة الخلافة. فمولانا أبو كلام أزاد من مدرسة الظاهرية الفكرية عمل مع علماء الأصول في كفاحهم للحفاظ على الخلافة وحمايتها. فوضعوا خلافاتهم جانبا وعملوا من أجل القضية الحاسمة وهي حماية وتطبيق شرائع وأحكام الله سبحانه وتعالى والتي لا يمكن القيام بذلك إلا بوجود الخلافة. والعالم المشهور من المذهب الحنفي مولانا محمود حسن والذي أيّد وشارك في الحركة بعد عودته من سجن مالطا سنة 1920.

ومن الأعضاء البارزين مولانا عبد الباري من المدرسة المحلة الفرنجية المشهورة. فمولانا عبد الباري كان من القادرية والشيشتية من المذهب الصوفي. وعبد الباري كان نشطا جدا في جمع التبرعات من أجل تركيا عام 1911 بالتعاون مع تلامذة مدرسته في ولاية أوتار براديش. وقد تواصل مع الإخوة علي خلال نشاطه هذا، وبعدها أصبح عضوا نشطا في حركة الخلافة [7]. وقد شهدت حركة الخلافة أيضا انضمام علماء شيعة كأمير علي، تاركين جانباً اختلافاتهم الدينية، فقد توحدوا مع السنة لإنقاذ الخلافة العثمانية والتي تعهدوا لها بالولاء أساسا. ولقد توسعت حركة الخلافة بشكل كبير في شبه القارة الهندية، حتى إنها انتشرت في كل الولايات تقريبا. ومن الأعضاء النشطين في حركة الخلافة كان علي موسليار في كيرالا.

  • لا يمكن فصل السياسة عن الدين

إن من أكبر الآثار الكارثية للعلمانية على المسلمين هو فصل مفهوم السياسة عن الإسلام. لكن تلك لم تكن الحالة في تاريخ علماء مسلمي الهند، ويمكن أن نرى أثر ذلك في حركة الخلافة. فالسياسة لا يمكن فصلها عن الدين كما ذُكر في الحديث الشريف، حيث قال الرسول ﷺ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ»‏.‏ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» [البخاري]

فمولانا أبو الكلام أزاد في مجلته الأردية المشهورة، الهلال، كتب أن المسلمين الذين يرغبون في فصل الدين عن السياسة ما هم إلا مرتدون يعملون بالخفاء [2]. ومفتي كفاية الله، وهو تلميذ مولانا محمد الحسن خلال حديث أمام اتحاد المسلمين، قال: “إن المسلمين الحقيقيين لم يفكروا أبدا بأن السياسة والدين كيانان منفصلان”. [3]

  • التضحيات في سبيل الخلافة

مستحضرين الاقتباس الأردي المشهور لبي أمان، والدة الأخوين علي، (حيث قالت والدة محمد علي “يا بني! ضحِّ بحياتك في سبيل الخلافة”) وهي نفسها كانت تلقي خطابات داعمة لقضية الإسلام. وفي إحدى المرات التي تم اعتقالها فيها ووضعها في السجن، قالت: “يا بني! تمسك بكل ما أوتيت من قوة بالإسلام. ولا تبالِ بشيء حتى إن ضحيت بحياتك في سبيل نصرة الإسلام”. وقد عاش أبناؤها المباركون على ما قالت؛ فكانوا في الخطوط الأمامية لقضايا الإسلام الحيوية، وأهمها حماية الخلافة. فليرضَ الله عنها لبي أمان وعلى أبنائها الصالحين، مولانا محمد علي ومولانا شوكت علي! آمين!

ومثال آخر بارز هو مولانا محمود الحسن والذي حاول جمع تلامذته للجهاد في سبيل حماية الخلافة العثمانية، والمشهورين بحركة رسالة الحرير. وخلال ذلك، قام البريطانيون باعتقاله عندما سافر إلى مكة بسبب خيانة الشريف حسين. وتم سجنه في سجن مالطا لـ 3 أعوام حيث تعرض فيها لأسوأ أنواع التعذيب. وخلال تغسيله من أجل دفنه، انصدم الناس عندما رأوا أنه لا يوجد أية دهون أو حتى لحم حول خاصرته. فخلال سجنه في مالطا، تم وضع قضيب أحمر حار على خاصرته وطلبوا منه “محمد الحسن! أخرج فتوى لصالح البريطانيين”. وعندما هدأ ألمه واستعاد وعيه كان يقول “أيها البريطانيون! أنا خليفة بلال/ قد يذوب جلدي لكني لن أفتي لصالح البريطانيين”.

  • خطر قلة الوعي السياسي

إن لجنة الخلافة جمعت تبرعات وأرسلتها إلى حكومة أنقرة في تركيا عام 1921م والتي كان يترأسها الخائن مصطفى كمال. ولم يعلم أعضاء لجنة الخلافة بخيانته إلا بعد أن تم إعلان هدم الخلافة بشكل علني. فالخائن مصطفى كمال تأثر بأفكار حركة تركيا الفتاة ولجنة الاتحاد والتقدم (سي يو بي) والتي قامت على أفكار علمانية وليبرالية ووطنية. وقد تعاون مع البريطانيين لهدم الخلافة العثمانية وتأسيس دولة ديمقراطية تقوم على هوية وطنية.

حيث قام مصطفى كمال بتأسيس حكومة موازية في أنقرة في 1921 وحاول تأسيس رأي عام ضد الخليفة مدعيا أنه عميل بريطاني. وقد عرض نفسه على أنه مخلص المسلمين وعدو بريطانيا. لكنه في الحقيقة كان عدو الإسلام والمسلمين الذي مثل أفكار الكفر بالوطنية التركية والليبرالية العلمانية [8].

إن الوعي السياسي يحمي الأمة من خطط الكفار ويساعد في تعريف أعداء الإسلام والمسلمين. فالوعي السياسي ضرورة إسلامية جاء من قاعدة: “ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب“.

الخاتمة

إن المسلمين يدينون بالكثير لهذه الحركة النبيلة والتي حاولت إنقاذ الخلافة. إن هناك الكثير من الدروس العظيمة التي يمكن

 

للأمة استخلاصها من هذا الصراع المخلص والنبيل لإنقاذ الإسلام. ونحن ملزمون بالتأمل بهذا الكفاح الذي قام به علماء الأمة من شبه القارة الهندية والسعي الحثيث لإعادة إقامة الخلافة الراشدة الثانية بإذن الله في البلاد الإسلامية والأخذ بالأمة إلى مكانها الحق في قيادة البشرية لتُخرجها من ظلمات الديمقراطية والعلمانية إلى عدالة الإسلام. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾. [البقرة: 143]

إخوتي الأعزاء! إن حزب التحرير مستمر في هذا الكفاح منذ حوالي سبعة عقود لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. فنحن نتبع الطريق الحق والذي عرفناه باجتهاد أميرنا الأول الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله ولم نبدل أو نساوم على هذا الطريق. وقد بدأ هذا الموكب بالشيخ تقي الدين والذي هز عروش الخونة في بلاد المسلمين. إن أعضاء هذا الحزب عانوا من أسوأ أنواع التعذيب والعقوبات في دهاليز الخونة المظلمة. لكن كل هذا التعذيب لم يزدنا إلا قوة للاستمرار بالعمل على إقامة الخلافة، حيث قال رسولنا الكريم ﷺ: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» (أبو داود، والترمذي، وابن ماجه).

إخوتي الأعزاء! قرن من الزمن قد مرّ تقريبا دون حكم الله على الأرض. إن الأمة يتيمة تم التهامُها كما يلتهم قطيع من الذئاب فريسته. إن حكام بلاد المسلمين العملاء الخائنين تخلوا عن الأمة، وقد ازدادت أفعالهم المجرمة التي تضطهد الأمة النبيلة يوما بعد يوم. فهل علينا أن نستذكر حديث رسول الله ﷺ: «إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ»؟

أيها المسلمون! لقد تجاوزنا الـ 3 أيام المسموحة لتنصيب خليفة منذ زمن مضى، والتي أصبح بعدها كل المسلمين واقعين في الإثم. إن واجب بيعة الخليفة الذي سيطبق شريعة الله سبحانه وتعالى ذُكر في الحديث الشريف: «مَنْ خَلَعَ يَداً مِنْ طَاعَةٍ لَقِي اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» (مسلم)

فيا أمة محمد النبيلة! إن إقامة الخلافة الراشدة الثانية قريبة! وبشرى رسولنا ﷺ قد قارب تحقيقها! لهذا عجّلوا إلى الخير لتكونوا جزءا من الكفاح العظيم لإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة! «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ».

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب لتحرير

عبد الفتاح بن فاروق

#أقيموا_الخلافة                    |         #ReturnTheKhilafah   |          #YenidenHilafet

المراجع:

  1. إزالة الخفاء عن الخلفاء ــ المجلد 1، ص6
  2. هاردي، بيتر. مسلمو الهند البريطانية. مطبعة جامعة كامبردج، 1972، ص 180
  3. مينولت، غايل. حركة الخلافة: الرمزية الدينية والحركة السياسية في الهند. مطبعة جامعة أوكسفورد، 1982، ص61
  4. المصدر السابق، ص57
  5. المصدر السابق، ص139
  6. المصدر السابق، ص121
  7. المصدر السابق ، ص34
  8. عبد القديم زلوم، كيف تم هدم الخلافة. إصدارات الخلافة، 200، ص147

 

 

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة