المسألة الغربية وجذور الكارثة الإنسانية “الديمقراطية”


لا توجد حالة تيه وضياع حضاري مثل التي يعيشها العالم اليوم بقيادة الغرب، وهو يعيش خريف حضارته وهي تنازع موتها وفناءها، وسط أوحال وركام منظومتها الفكرية العلمانية البائسة وتحت أثقال ماديتها الجافة اليابسة، بعد أن استنزفها دورانها في دوامة العدمية وغياب المعنى. وفي هذا التيه ومن ذلك الركام والضلال الفكري انبعث الشر كله، وتحولت الحياة البشرية إلى جحيم وباتت أنظمتها أنظمة عذاب لا أنظمة حياة.


وفي كد وجهد وعنت العقل الغربي في صياغة مأساته وأنظمة فنائه وشرائع وطرائق عذاباته، وفي شروده وهو يأبق من ضلال كنيسته واستبداد قساوستها وملوكها، انتحل من ديمقراطية الإغريق نظام حكم لإدارة وسياسة الاجتماع البشري وكان فيها كالمستجير من الرمضاء بالنار، فهروبا من الدين حفر العقل الغربي في أعماق تاريخ الشرك حتى أقْعَرَ وقَرَّ في قعر أثينا الإغريق وما ابتدعته من أنظمة لقيادة وحكم عبيدها، ومن ادعائها في أن أفراد شعب أثينا هم من يتخذون القرارات خلال اجتماعاتهم الشعبية، وهو ما عبرت عليه كلمتا (ديموس وكراتوس) أي حكم الشعب، فانتحلها الغرب لقيادة وحكم عبيده، بعدما عين الإنسان حاكما والعقل مصدرا لأحكامه.


فكانت الديمقراطية نتاجا طبيعيا للمنظومة الغربية العلمانية في فصلها للدين عن الحياة ومنها السياسة، لأن جذرها الفكري وأساسها العقدي العلماني لا يحتمل إلا تفسيرا ومعنى واحدا، من أن التشريع والحكم من صلاحية الإنسان وليس الخالق، فحقيق الديمقراطية هو في نبذ أحكام الخالق وشريعته، والعنت في جعل المخلوق الإنسان مشرعا، ومصدر التحسين والتقبيح عقله وليس الوحي.


أما التعريف والاصطلاح الفلسفي من أن الديمقراطية هي حكم الشعب نفسه بنفسه، فهي مغالطة معرفية كبرى، ما كان لها قديما ولا حديثا واقع فعلي، فلا الشعب استصدر حكما ولا أنفذ حكما، فالتاريخ يخبرنا أن شعب أثينا هم الذكور الأحرار ملاك العقارات النبلاء، وأن الزمن النموذجي لديمقراطية الإغريق هو زمن أثينا بركليس، ويخبرنا التاريخ أنه كان هناك 2000 ذكر أحرار يقررون حاضر ومستقبل ومصير 110 ألفاً من محرومي وعبيد ومنبوذي أثينا الذين ليس لديهم أي حق سياسي، أي ديمقراطية قائمة على أكتاف العبيد.


وكل هذه الديمقراطيات الغربية اليوم تعتمد الوهم نفسه والدجل نفسه، فديمقراطية الغرب اليوم قيد لرأسمالييه، وأداة حكم وتحكم للفئة النافذة والمتنفذة في رأسماليته، فالمهندسون الحقيقيون لأنظمة وسياسة الحكم هم الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات والبنوك الرأسمالية، وتلك حقيقة لا جدال فيها منذ الزمن الأول العلماني، فهذا فيلسوف ومنظر الرأسمالية الأول آدم سميث يعبر عن حقيقة الديمقراطية بقوله: “إن المهندسين الأساسيين للسياسة في إنجلترا هم التجار وأصحاب المصانع”، وقد خلفه اليوم فيلسوف الليبرالية المعاصرة ميلتون فريدمان وفي تكريس لتلك الحقيقة الديمقراطية يقول في كتابه “الرأسمالية والحرية”: “بما أن جني الأرباح هو جوهر الديمقراطية فإن أي حكومة تنتهج سياسات معادية للسوق هي حكومة معادية للديمقراطية، بغض النظر عن حجم التأييد الواعي الذي قد تتمتع به، لهذا من الأفضل حصر عمل الحكومات في مهمة حماية الملكية الخاصة وفرض الاتفاقيات، وقصر النقاش السياسي على الأمور الثانوية، أما الأمور الحقيقية المتعلقة بإنتاج وتوزيع الموارد والتنظيم الاجتماعي يجب أن تقررها قوى السوق”.


وقد عبر أول قضاة المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية جون جاي عن هذه الحقيقة الديمقراطية وفي لحظة بلاغة تامة بقوله: “الناس الذين يملكون البلد يجب أن يحكموه”!


وعليه فكل تلك السفسطة حول حكم الشعب وسيادة وإرادة الشعب ما هي إلا ثرثرة وضوضاء السياسيين لتخدير العامة، والهوامش والحواشي من المثقفين والمضبوعين القابعين في كهوف التنظير الفلسفي الأوروبي للقرن السابع عشر، وهم يلوكون الفروض والأوهام الفلسفية لجون لوك وروسو حول عقد اجتماعي موهوم ومزعوم ركيزتاه الخير العام والإرادة العامة، ومن ثم يستتبعهما سيادة الشعب والشعب مصدر السلطات والمشاركة الشعبية في صنع القرار وما في حكمهم من أضغاث الأحلام.


فمتى تم في مذهب البشر على مر العصور الاتفاق على الخير حتى يصبح خيرا عاما، فضلا عن ثبات قيمة ذلك الخير المزعوم ودوام تصوره؟ أما تلك الإرادة العامة فهي عين الوهم والاختلاق والافتراض. كما أن النظرية الكلاسيكية للديمقراطية بنيت على فرضية ونظرية القانون الطبيعي ومن ثم الحقوق الطبيعية.


ومفهوم القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية لا يعدو عن كونه تصورات ذهنية مجردة وفرضيات خيالية لا علاقة لها بأي واقع، ولكنه تلفيق فلسفي علماني للخروج من ورطة القصور المعرفي للعقل الغربي، فالفكر الغربي العلماني بعد عزل وفصل الدين عن حياته اصطدم بمعضلات معرفية كبرى، منها المعضلة الأساسية والجوهرية حول مصادر المعرفة بمعزل عن الدين وقطيعة مع معارفه، وهنا تاه وشرد في عقلانيته الموهومة ثم انتكس إلى مادية الطبيعة وقانون الطبيعة كمصدر للمعارف والرؤى والتصورات، فكان مفهوم القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية كتوليد وانبثاق عن ذلك الفصل والإنكار للدين كمصدر للمعارف والأنظمة، خلفته الطبيعة/المادة كمصدر.


ومتى تجاوزنا هذا الزيف والدجل الفلسفي إلى عمق المأساة في المسألة الغربية، وهي في تهافت فلسفتها المادية وفي ذلك الادعاء الزائف والتبجح الأرعن في القدرة على التصدي للمشكلة الإنسانية وحل عقدتها الكبرى في تفسير الوجود سببا وغاية ومصيرا، ومن ثم وضع مناهج وأنظمة وشرائع لحياة البشر.


وما كان إلا عنت وكد وجهد العقل الغربي في صناعة مأساته، وهذا هو الذي تشقى به البشرية كلها اليوم، وهي تخبط في التيه وراء سراب الغرب وفي بيداء وعراء حضارته.


فكيف بهذا الكائن الحقير المحدودة كينونته زمانا ومكانا، إذ هو حادث في زمن بعد أن كان عدما وينتهي بعد حدوث، ومتحيز ومتموضع في مكان لا يوجد إلا فيه، وفوق هذا هو محكوم بضعفه وميله وشهوته ورغبته وحاجته فوق ما هو محكوم بقصوره وعجزه وجهله، فكيف والحال كذلك بهكذا إنسان أن يدعي في وهم تفكيره إنشاء تصور اعتقادي يفسر به الوجود من ذات نفسه ويبدع أنظمة يدير بها دواليب الحياة البشرية من ذات نفسه كذلك؟!


عجبا لهذا الكائن البشري الحقير الذي يبني منتهى علمه على الظن والحدس والخرص والفروض المتغيرة المتقلبة دوما وأبدا، ثم يتخذ من هكذا ظن وهكذا هوى يقينا وإيمانا وإلها معبودا يتلقى عنه العقائد والقيم والتصورات والمعايير والنظم، حقا كان الإنسان أكثر شيء جدلا ثم فوق هذا هو ظلوم جهول.


فكيف بصاحب اللحظة أن يقود ويحدد مسار ومستقبل ومصير دهر، حتى أضحت الحياة في ظل المنظومة العلمانية الغربية عرضة للهزات العنيفة الدائمة والتقلبات المدمرة والأزمات الطاحنة، يكفي فيها هذا الكم من الترقيعات للأنظمة الغربية والتعديلات والتأويلات الدستورية والاسثتناءات والملحقات القانونية، والأزمات الدورية المتلاحقة. ما جعل كثيرا من فلاسفة ومفكري الغرب يتنبهون لحجم العطب المعرفي في الفكر العلماني وأخطاء وخطايا المنظومة الفكرية الغربية، بل باب من أبواب الفلسفة في الغرب طُرِق وفرع من فروعها استحدث حول التفلسف في الكارثة المعرفية للمنظومة الفكرية الغربية وإفلاسها وانهيارها الحضاري، ومن فلاسفته ومفكريه الذين كان لهم صوت مدَوٍّ في التحذير من السقوط منذ منتصف القرن الـ19 من بينهم تولستوي وبوركهارت وبروكس آدمز صاحب مقولة “الفلسفة إجابات غير مفهومة لأسئلة ليس لها حلول” و”السياسة مؤسسة نظامية للأحقاد والضغائن”. ثم بعد التحذير بدأ التفلسف في الكارثة والمأساة الحضارية الغربية، فقد جاءت حرب الغرب العالمية الأولى بعمل الفيلسوف الألماني أوزوالد شبينجلر وكتابه المعتمد “انهيار الغرب”، وتلتها حرب الغرب العالمية الثانية بدراستين الأولى دراسة للتاريخ للمؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي ودراسة ثانية للمفكر الروسي الأمريكي تبريم سوروكين، ثم تلاهما دراسات ومقالات وكتب، مقالات الفيلسوف الفرنسي بول فاليري ومقولته “إننا ندرك اليوم أن حضارتنا محكوم عليها بالموت”، وكتابات المفكر غارودي منها “نداء للأحياء” و”أمريكا طليعة الانحطاط” و”الحضارة التي تحفر قبر الإنسانية”، القائل: “إننا نوشك أن نغتال أحفادنا، ونعد انتحارا كوكبيا في القرن الواحد والعشرين، إذا ما استسلمنا للانحراف القائم في السياسة العالمية…”.


ما كانت الديمقراطية إلا من قبيل ذلك السحق الفكري العلماني المادي الغربي، وما كانت إلا دولابا لطاحونة رأسماليته، وما كانت سيادة الشعب وإرادة الأغلبية إلا شعارات جوفاء لتزييف الوعي وشل أي فعل معاكس لتيار رأسماليته. فالأغلبية المزعومة هي أكثرية في أقليات وأقلية في مجموع، يصنعها ويفرزها المال السياسي الرأسمالي، ونظام الانتخابات حبكته خوارزميات شديدة الخفاء والتركيب خدمة لمصالح الرأسماليين، ومرشحو الأغلبية صُنعوا صناعة في معامل السياسة الرأسمالية، والحصيلة النهائية برلمان وحكومة ومجالس من تصميم رأسمالي خالص وتام.


ما كانت الديمقراطية نظام حكم بل أداة استعباد، وما كانت فينا معشر المسلمين إلا كفرا أسود وضلالا مُمَحضا وإقصاء لشرع ربنا ومجلبة لسخطه، كلفتنا عنتا ومزقتنا قددا وجعلت أمرنا تحت سيطرة طاغوت شيطان. ما كانت ديمقراطية الغرب الكافر فينا إلا أداة حرب وآلة استعمار وأسلوب استحمار، ونظام قتل وفتك ونشرا للرذيلة ووأدا للفضيلة، باسمها خربت الدار وانتهك العرض وقتل الأهل واستبدل الدين. ما كانت فينا إلا حصان طروادة وشراكا وفخا في حملة صليبية أخرى، وما كانت إلا حركة مبضع في أدمغتنا لفتح ثغرة في عقولنا وقلوبنا حتى يهون هدم الحصن واحتلال الدار.


معشر المسلمين! ما كانت الديمقراطية إلا نبتة خبيثة من تلك الشجرة الخبيثة الملعونة لحضارة الغرب الكافرة، التي ملأت الأرض بالخبائث والأرزاء ولن تنتهي من أمر البشر حتى يكون حرَضا أو يكون من الهالكين.


وقد آن وحان الخروج من هذا التيه، والانفكاك عن ضلالات الغرب وظلمات كفره، آن وحان لكم معشر المسلمين إنقاذ أنفسكم والبشرية من هذا السحق الحضاري والتيه المضل والركام الثقيل، فأنتم أصحاب الرسالة والشهادة، وحقيقة الله في خلقه وخاتمة وحيه، فأنتم النور في آخر النفق وأنتم ذلك المغتسل البارد والشراب بعد تيه المسير في بيداء الغرب.


فما لهذا العالم المنكوب البائس إلا أنتم لإخراجه من حيرته وضلاله، ولن يكون إلا باسترجاع سلطانكم المغصوب من الغرب وأذنابه أولا، وتحكيم شرع ربكم بإقامة أمر إسلامكم ببيعة رجل منكم يُحَكِّمُ فيكم كتاب الله وسنة نبيكم ﷺ، فيعيد فيكم سيرة الصحب الكرام الراشدين خلافة راشدة على منهاج النبوة، تقام بها أحكام القرآن بعد هجر وتحيي بها سنة المصطفى الهادي ﷺ بعد موات، وتستأنفوا بها حياتكم الإسلامية بعد انقطاع، وتحملوا دعوة الإسلام العظيم هداية للعالمين، فتصلوا الأرض بالسماء ليرضى عنكم رب الأرض والسماء. فلنور الله ندعوكم فاستجيبوا وأجيبوا ففيه خلاصكم ونجاتكم.


﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾


#أقيموا_الخلافة
#ReturnTheKhilafah
#YenidenHilafet
#خلافت_کو_قائم_کرو

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
مناجي محمد

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة