جريدة الراية: فتاوى عابثة لدار الإفتاء المصرية
تنكر وجوب الخلافة وتحارب الساعين لاستعادتها
نقلت بعض المواقع عن دار الإفتاء المصرية أنها أفتت بأن السعي لإرجاع الخلافة عبث، لأن الخليفة هو الذي يخلف من قبله، وحكام بلاد المسلمين اليوم كلهم خلفاء لأنهم خلفوا من قبلهم، فأي محاولة لإيجاد الخلافة عبث لأنها موجودة. وجاء في هذه الفتوى أيضاً أنه يجوز تعدد الخلفاء، لأن وحدة الخلافة ليست شرطاً في الشرع. وتذرع أصحاب هذه المزاعم بأنه قد حصل تاريخياً وجود أكثر من خليفة للمسلمين في وقت واحد، وأوردوا قولَه تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، ليقولوا إنَّ كل إنسان خليفة، فيصرفوا الموضوع عن حقيقته.
وبناء على هذه الهتهتة المسماة فتوى يكون كل حكام المسلمين اليوم خلفاء شرعيين، بل يكون حكام كل دول العالم خلفاء لأنّ كل واحد منهم خلف من قبله! ناهيك عن الخلط بين أكثر من معنى للفظ “خليفة”، لإثارة اللَّبس حول حكمها والتهوين من شأنها.
وإن المرء ليحتار بماذا يصف هذا المستوى من الضلال والتفاهة. فقد اجتمعت في هذه الفتوى مغالطات كثيرة نقضت ما عليه إجماع الصحابة وعلماء الأمة قاطبةً، وجهالات لا تصدر عن طويلبِ علم فضلاً عن دار فتوى! وتضمنت تدليساً نقض أحكاماً قطعية، حيث أنكرت أنّ الخلافة رئاسة عامة للمسلمين جميعاً ولا تتعدد، والخليفة واحد، والأمة الإسلامية أمة واحدة ليس لها إلا رئيسٌ واحد.
وكل الأئمة والفقهاء المعتبرين متفقون على ذلك، لأن أدلة الشرع متضافرةٌ على ذلك بما يفيد القطع. فالقرآن الكريم يوجب وحدة الأمة الإسلامية مهما تعددت شعوبها وأعراقها ومناطقها. قال تعالى: ﴿إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92]، وهذا يوجب أن يكون رئيسها واحداً. فلا يجوز أن تكون أكثر من أمةٍ أو جماعة واحدة، ولا أن يكون لها دولتان أو أكثر، لأن النبي ﷺ أمر بلزوم جماعةِ المسلمين وإمامِهم الواحدِ، وبقتل من يريد أن يفرق جماعتهم، وبقتل الخليفة الثاني إذا بويع لاثنين. روى مسلم عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا»، وقال ﷺ: «وَمَنْ بَايَعَ إِمَاماً فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ»، وقال ﷺ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ».
أما إقحام الفتوى لمعنى الخليفة بأنه الذي يخلُفُ من قبله، فتضليل تافه مكشوف، لأنَّ قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ هو عن آدم عليه السلام، وآدم لم يخلُفْ أحداً قبله، ما يؤكِّد أن معنى الخليفة في الآية بعيد عن هذه الفرية التي لا يصح عدُّها فتوى ولا رأياً شرعياً، قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسير هذه الآية: “فالخليفة آدمُ، وخلَفيَّتُه قيامُه بتنفيذ مرادِ اللهِ تعالى من تعميرِ الأرضِ بالإلهام أو بالوحيِ”.
ومع أنه ينطبق على الخلفاء أن التالي منهم يخلف سابقه، إلا أن هذا ليس هو معنى الخليفة الحاكم. والمعنى الشرعي للخليفة يُستفاد من صلاحياته ومسؤولياته، وهو في الاصطلاح الشرعي رئيس المسلمين الموكَّل منهم بحكمهم، والمكلف شرعاً بتطبيق الإسلام. فهو خليفة أي أنه مستَخْلَف من غيره ليكون رئيساً للمسلمين. وبتعبير آخر هو مكلف من غيره بتطبيق الإسلام ورعاية كافة الشؤون بأحكامه. وعند قيام الدولة الإسلامية القادمة سيكون رئيسها خليفة مع أنه لا يخلفُ حاكماً قبله.
أما في اللغة فالمعنى أعمّ، فالمُسْتَخلَف خليفة، وليس بالضرورة أن يكون رئيساً أو حاكماً. وكونُه مُسْتَخْلَفاً يعني أنه مكلَّفٌ برعاية أشياء أو أمور معينة وتعهُّدِها كي لا تخرج عما ينبغي لها، أو بالقيام بأعمال نيابةً عن غيره سواء في شؤون الحكم أو غيره. وهذا يعمُّ الخليفة في الاصطلاح الشرعي وغيره. جاء في لسان العرب: “الخليفة من يقوم مقام الذاهب ويسدُّ مَسدَّه”. وجاء فيه أيضاً: “يُقال: خلفه في قومِه خِلافةً”. وقال الشيخ ابن عاشور في تفسير التنوير والتحرير: “الخليفة في الأصل الذي يخلُفُ غيرَه، أو يكونُ بدلاً عنه في عملٍ يعملُه… الذي يتولَّى عملاً يُريدُه المستَخلِف مثل الوكيل والوصي”. وهو ما يدل عليه قولُه تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى لِأخِيِهِ هَرُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾ [الأعراف: 142]. فاستخلافُ موسى لهارونَ في قومِه هو بأنْ يُقيمَه مكانَه أو مقامَه فيهم أثناءَ غيابِه، ليقومَ على شؤونِهم بالإصلاح ومنع الفساد كما تُكْمِلُ الآيةُ: ﴿وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾. ومن هذا القبيل أيضاً استخلاف النبي ﷺ لعلي بن أبي طالب على المدينة عندما خرج إلى تبوك. واستخلافه لعبد الله بن أم مكتوم حين كان يخرج لبعض أسفاره. وقد روى الطبراني عن ابن عباس: «أن النبي ﷺ استخلف ابن أم مكتوم على الصلاةِ وغيرِها من أمر المدينة».
أما ما تذرعت به الفتوى من أنه مرَّ في التاريخ وجود أكثر من خليفة في وقتٍ واحد، فهو دليلٌ على مدى وقاحة أصحابها، إذ إنهم يستدلون بأحداث تاريخية منافية للشرع، ليُسوِّغوا محاربة الإسلام وتحريف أحكامه. ولو صحت هذه الضلالة لصار ما يرتكبه الحكام الحاليون، دليلاً على جواز الخيانات والكبائر، وإعمال المجازر في المسلمين!
لذلك، فإنَّ الأقوال الصادرة عن دار الإفتاء المصرية التي تنفي وجوب الخلافة وتفتري بأنَّ العمل لإقامتها عبث، متهافتة لأنها لا تستند إلى الشرع، بل تنتمي إلى الكفر، وتدل على سقوط أصحابها علمياً وأخلاقياً. وما كانت لتستحق إضاعة الوقت بذكرها لولا أنها جزء من الحرب الغربية على الخلافة والإسلام السياسي، وهي حرب واسعة النطاق وكثيرة الجبهات. فينبغي أن يكون الرد عليها بهدف إجهاضها، وليس لمجرّد التفنيد الشرعي.
وفي الحقيقة، ما كان لمثل هذه الضلالات أن تُتناقل، لولا حكام الكفر والعمالة، الذين يأتون بأشباههم من سيئي الخلق قليلي الحياء. وإن تسمية الضلال والوقاحة فتوى ليُذكِّر بقول أحمد شوقي عن اليهودي الحاقد مصطفى كمال عقب إلغاء الخلافة حيث قال:
بَـكَتِ الصَّلاةُ وَتِـلكَ فِـتْـنَةُ عَـابِثٍ *** بِالشَّـرْعِ عِـرْبِيـدِ القَضَاءِ وَقَـاحِ
أَفـتَـى خُـزَعْـبَـلَـةً وَقَـالَ ضَـلَالَـةً *** وَأتَـى بِـكُـفْـرٍ فِي الْـبِـلَادِ بَـوَاحِ
وهذه المزاعم من دار الإفتاء المصرية ضلال وعربدة، وفتنة من جنس فتنة مصطفى كمال واستكمالٌ لها.
بقلم: الدكتور محمود عبد الهادي
المصدر: جريدة الراية