الأربعاء، 10 جمادى الآخرة 1446هـ | 11 ديسمبر 2024م | الساعة الآن: 21:11:46 (ت.م.م)
﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾
إنّ حال المسلمين الأليم ومعيشتهم الضنكى التي يحيونها في جميع بقاع الأرض لا تخفى على أحد، فأينما أدرت بصرك ترى تكالب الأمم عليهم وعلى بلادهم ومقدراتهم وتسلط حكامهم المجرمين على رقابهم، وترى الحروب والفقر والجوع وانعدام الأمن والتضييق عليهم في أداء عباداتهم والالتزام بشعائر دينهم، وقد أصيب كثير من المسلمين في ظل هذا الواقع المرير باليأس والإحباط وفقدوا الأمل بتغير الحال وانقضاء سواد الليل وبزوغ الفجر، بل إنّ البعض قد يئس من الناس ونفى الخير والصلاح عنهم، فثبطت عزيمتهم وقعدوا عن العمل لتغيير هذا الواقع الأليم، بل وأخذوا يستهزئون بالعاملين للتغيير وبجهودهم.
إنّ الأصل في المسلم رغم هذا الواقع الأليم أن لا يفقد أمله فييأس ويقنط من رحمة الله، فالله سبحانه حرّم اليأس والقنوط فقال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾، واليأْس فيه سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً﴾، وكما لا يجب أن ييأس المسلم من رحمة الله وفرجه، كذلك يجب أن لا ييأس من الناس ويظن أنّه تُودّع منهم فأمة الإسلام أمة الخير ولا يُعدم الخير والرجاء من أبنائها حيث يقول ﷺ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ» ومعناه أشدهم هلاكا، وروي «أَهْلَكَهُمْ» بالنصب ومعناها هو جعلهم هالكين، لا أنهم هلكوا في الحقيقة.
إنّ المسلم عليه أن يضع نُصب عينيه أنّ قوة الله سبحانه وقدرته تفوق قوة كل الطغاة والمتجبرين، وأنّ ما نراه صعبا أو مستحيلا هو عند الله هين، وهذه الثقة من صُلب عقيدته التي توجب عليه أن يؤمن بذلك إيماناً راسخاً لا يشوبه ريب، ولا يخالطه شك، فالمسلمون في غزوة الأحزاب رغم تكالب الكفار عليهم وقلة حيلتهم كانوا واثقين بنصر الله، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾، على عكس موقف المنافقين والمرجفين الذي بينه الله في قوله: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾. ويحضرني هنا ما يروى عن عمر المختار أنّه قيل له: “إيطاليا تملك طائرات نحن لا نملكها”، قال: “أتحلق فوق العرش أم تحته؟” فقالوا: “تحته يا عمر”، فقال: “مَن فوق العرش معنا فلا يخيفنا ما تحته”.
إنّ الابتلاء والتمحيص سنة من سنن الله في الكون ليميز الخبيث من الطيب، وينصر من ينصره، يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، وفي عز المحن والابتلاءات تظهر ثقة المؤمن بربه وبنصره لعباده؛ فسيدنا موسى عندما خرج هو والذين معه ولحقهم فرعون حتى إذا قابله البحر ولم يكن عنه منصرف كان متيقناً من نصر الله، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، وسيدنا محمد ﷺ بينما كان مطارداً من قريش وعد سراقة بسواري كسرى وطمأن أبا بكر وهما في الغار بأنّ الله معهما وناصرهما، عَنْ أبي بكرٍ الصدِّيقِ رضي الله عنه قال: (نظرتُ إلى أقدامِ المشركين ونحن في الغارِ وهُمْ على رؤوسِنا فقُلتُ: يا رسولَ الله لو أنَّ أحدَهم نظر تحت قدَميْه لأبْصَرَنا. فقال: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا»).
لقد مرّ المسلمون عبر تاريخهم بأوقات من الضيق والواقع المرير كحالنا حتى ظُنَّ أن الإسلام والمسلمين لن تقوم لهم قائمة بعد ذلك؛ كاحتلال الصليبيين للقدس وغزو المغول والتتار لبلاد المسلمين، ولكن الله يسر لهذه الأمة رجالاً صدقوا مع الله ورسوله وقاموا على حدوده فنصرهم وأظهرهم على عدوهم، قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
إنّ الإنسان بطبعه يحب البشرى وتطمئن إليها نفسه وتمنحه دافعاً قويّاً للعمل، والمبشرات بانتصار الإسلام والمسلمين وسيادتهم على العالم كثيرة منها قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، وبشراه ﷺ بعودة الخلافة بعد الحكم الجبري: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً عَاضّاً فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»، وبشراه بانتشار الإسلام ودخوله كل بيت، «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ؛ عِزّاً يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلّاً يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ». فحاشا لله ورسوله أن يخلفا ما وعدا، ونسأله سبحانه أن يكون ذلك قريباً وأن نكون من شهود تلك الأيام.