إقامة الخلافة: حلم ممكن أم أمر مستحيل؟

 

 

الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة هي حلم يسعى إلى تحقيقه المؤمنون من أبناء أمة محمد ﷺ، تماما كما كان بناء الدولة الإسلامية حلماً في عقول المؤمنين قبل الهجرة لما بُعث رسول الله ﷺ، بل لم يكن يخطر ببال أحد من المؤمنين الأوائل حتى أن يحلموا مجرد الحلم بأنهم سيهدمون الإمبراطوريتين الرومية والفارسية، ولم يكن يخطر في عقول البدو من الأتراك أن يحلموا مجرد حلم بأنه سيأتي يوم يفتح فيها القائد التركي العظيم محمد الفاتح رحمه الله القسطنطينية ويجعلها عاصمة الدولة الإسلامية.

 

كل هذه الأحلام والأمنيات والرغبات والتطلعات قد تحققت وأصبحت واقعا، نعم لقد أنجزت على أكتاف المؤمنين من الرجال ذوي الهمم العالية والبصيرة الثاقبة والعزم والإصرار التي تقتلع الجبال من مكانها والعروش من أركانها. فطردت روما من معقلها الأول في الشام ومن معقلها الثاني في القسطنطينية، ودمرت فارس وانتشر الإسلام في ربوع المعمورة وانطلق المجاهدون يفتحون البلدان والقارات حتى صار المسلمون غزاة مجاهدين يحملون العدل والخير، قال تعالى: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً﴾.

 

ونحن المسلمين اليوم لدينا أيضا حلم عظيم جليل نريد تحقيقه، وهو استعادة الخلافة الراشدة إلى الوجود من أجل تطبيق شرع الله من جديد وحماية ديننا وأمتنا ومصادرنا وثرواتنا من عبث العابثين، ولكي نحمل دعوة الإسلام من جديد إلى ربوع الدنيا كلها، نعم هذا هو حلم المؤمنين اليوم الذي يصبون لتحقيقه، لنشر العدل ونصرة المظلوم وتحرير فلسطين وكل بلاد المسلمين المحتلة، نعم هذا هو حلمنا اليوم نحن المؤمنين.

 

وكالعادة يحاول أعداء الأمة المستعمرون وأدواتهم من حكام المسلمين وأنظمتهم، تثبيط عزيمة المؤمنين وإقناعهم بأن هذا الحلم الذي يسعون له هو وهم وخرافات لا يمكن تحقيقها، يحاولون تصوير أحلامنا على أنها معجزات وأمور مستحيلة التحقق. يدّعون أن الحياة قد تغيرت وأن الأحوال قد تبدلت، وأن الظروف قد صارت غير تلك الظروف، بل وأن المؤمنين أصبحوا غير أولئك الذين كانوا في زمن النبوة، فقد ضعف الإيمان والعزيمة! وأن كل ما يحلم به المؤمنون اليوم لا يتعدى قصصا وروايات يمكن أن تروى للصبية قبل النوم، أو تدرس على أنها تاريخ فقط من باب العلم بأحداث التاريخ لا غير!

 

وللأسف جنّد المستعمرون الكثير من العلماء في كثير من بلاد المسلمين ليعينوهم على ترسيخ فكرة الضعف والوهن الذي دب في أمة الإسلام، وأن المسلمين اليوم مستضعفون وغير قادرين حتى على حماية أنفسهم أو الحصول على قوت يومهم فكيف بتحقيق أمر عظيم وجلل كإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة! وهؤلاء العلماء للأسف يخرّجون مئات العلماء أمثالهم ممن هم مقتنعون بفكرة أن على المسلمين اليوم أن يرضوا بواقعهم وأن لا يحاولوا تغييره كي لا تحدث فتن أكبر من واقعهم الحالي الفاسد، وبالتالي هم يبثون في أمة الإسلام أفكارهم السامة بقصد أو بغير قصد لتركيع المسلمين لأعدائهم وللحكام والأنظمة القائمة، والحيلولة دون خروج الأمة على حكامها وأنظمة الفساد والإفساد التي أسسها الغرب الكافر في بلداننا بعد هدم دولة الخلافة عام 1924م.

 

لقد بلغ الحد في بعض هؤلاء العلماء القول بأن الخروج على الحكام اليوم هو ضلال وكفر وردة والله المستعان على ما يصفون! مع أن الرسول ﷺ قد دعا للخروج على الحكام والظلمة والتغيير عليهم في أكثر من حديث، ولا يمكن ذكرها جميعها الآن ولكن نذكر منها: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ، فَلَا يُنْكِرُونَهُ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ».

 

والحقيقة أن المؤمنين اليوم قادرون على تغيير وضعهم وأحوالهم، إنهم قادرون على استعادة خلافتهم للوجود من جديد، ذلك أن الإيمان والعقيدة والدين والقرآن الذي أنشأ المؤمنين الأوائل هو محفوظ بحفظ الله لكتابه الكريم فقد قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن وعد الله للمؤمنين الأوائل بتحقيق حلمهم وغايتهم هو نفسه محفوظ لنا في كتاب الله عز وجل بقوله سبحانه: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

 

وأما على الصعيد المادي: فإذا كان النبي ﷺ ببضع مئات من المهاجرين والأنصار قد تمكنوا من تحقيق حلمهم وبناء دولة المسلمين الأولى في يثرب، مع أن مصادرهم وثرواتهم ومقدراتهم المادية لتكاد تكون منعدمة أو قليلة جدا مقابل إمكانيات أعدائهم آنذاك، إلا أن عدد المسلمين اليوم يقارب ملياري مسلم، وعدد العلماء والخبراء والفنيين والتقنيين والحرفيين والأطباء والمهندسين والفلكيين والطيارين يكاد يكون بعشرات بل مئات الألوف. هذا ناهيك عن المصادر الطبيعية والمعادن والثروات والطاقة والنفط والممرات البحرية والمضائق، والجيوش الموجودة الآن لدى الأمة والأسلحة، فلماذا يحاولون إقناعنا بأن أحلامنا هي أوهام وخرافات يستحيل تطبيقها؟! إذا كان ملياران من المسلمين بكل هذه الثروات وبدين كدين الإسلام لا يستطيعون استئناف خلافتهم من جديد فمن يستطيع؟!

 

إن الكافرين المستعمرين يدركون تماما أن أمتنا قادرة على استعادة خلافتها من جديد، وقادرة على استعادة أمجادها من جديد، وقادرة على هزيمة كل أعدائها، تماما كما فعلت في السابق، ولولا معرفتهم بذلك لما جندوا كل هؤلاء العلماء وتلك الأنظمة وأولئك الحكام ليقنعونا بأننا غير قادرين على تحقيق أحلامنا. إن مدى المكر الذي يمكره المستعمرون ليلا ونهارا ضد أمة الإسلام لحرفها عن حلمها هو دليل واضح على أن هذا الحلم هو معقول وميسور التحقيق، ولإدراكهم بأن أمة محمد فيها مؤمنون قادرون، يمكن أن تبنى على أكتافهم أقوى وأعظم خلافة، وأن هؤلاء المؤمنين يمكنهم عبر هذه الخلافة صنع الأمجاد وتحقيق ما لا يمكن لأي أمة تحقيقه.

 

وقد يقول قائل إن الأحلام باتت صعبة التحقق في عصرنا وزماننا، وكل هذه الأمور قد حصلت في الماضي، ولأولئك نقول: ألم يكن جدار برلين قدَراً لا يمكن تغييره في عقول معظم الذين كانوا يعيشون ذلك الصراع مع الاتحاد السوفييتي؟ ألم يكن مجرد المساس بهذا الجدار أو الاقتراب منه يعتبر انتحاراً؟ ألم يحلم الألمان وقتها بهدمه وتوحيد الألمانيتين الشرقية والغربية؟ ألم يصلوا إلى هدفهم وغايتهم وحلمهم؟ ألم يقل لهم الناس في ذلك الوقت إنهم حالمون وواهمون غير واقعيين؟ فلو استمع الألمان لهم فهل سقط الجدار وتوحدت الألمانيتين؟ وهل كانت ألمانيا على جاهزية لتحويل ألمانيا الشرقية في غضون أعوام قليلة إلى مستوى ألمانيا الغربية لو لم يحلم الألمان بحتمية قدوم ذلك اليوم، ويستعدوا له ماديا منذ يوم بني الجدار؟

 

ألم يكن المستعمرون الفرنسيون والبريطانيون والإسبان وغيرهم يحتلون أمريكا؟ ألم يكن مجرد تفكير الأمريكيين بالتحرر من كل هؤلاء المستعمرين الأوروبيين هو حلماً يصعب تصديقه ويحرم تداوله؟ ألم يكن حلما مستحيلا للأمريكيين؟ فكيف تمكنوا إذاً من طرد المستعمرين وتحرير أمريكا؟ ثم إن كان الأمريكيون يحلمون بطرد الأوروبيين وقتها، فهل كانوا يحلمون أيضا بتحرير أوروبا من هتلر وألمانيا النازية وهزيمته؟ وهل كان الأمريكيون الذين احتلهم الأوروبيون عندها يحلمون بأنهم سيعيدون إعمار أوروبا بمشروع مارشال؟ ألم يكن ذلك حلما مستحيلا؟ ألم تتحقق للأمريكيين كل تلك الأحلام التي حلموا بها؟

 

ولذا لا بد لكل الشرائح في أمة الإسلام أن تدرك أن إقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة هو حلم ممكن ومعقول، ولا بد للجميع أن يدركوا أن الطريق اليوم لإعادة الإسلام للحكم هو بالخلافة وحدها، وأنها هي التي يمكنها توحيد المسلمين في نظام سياسي قوي ومتين ومستقل عن أيادي الكفار والمستعمرين، وأن هذه الخلافة هي من سيحمي المسلمين وثرواتهم ومقدراتهم، وهي من سيغير حالهم إلى أفضل حال وإلى كرم العيش ورغده وسعته، وهي التي ستوجه طاقاتهم ومقدراتهم ليكونوا خير أمة ومثالاً يحتذى به في كل الميادين والمستويات، وهذه الخلافة هي حلم المؤمنين اليوم، ذلك الحلم الحتمي التحقق، والذي باتت تبرز وتظهر معالمه وبوادره اليوم، فلقد ازداد عدد عشاق الخلافة ومؤيدوها وانتشر هذا الحلم في كل القارات، ويعمل على تحقيق هذا الحلم مئات الآلاف من أمة محمد ﷺ، وإنا لواثقون أن إقامة الخلافة الراشدة الثانية على أكتاف هؤلاء المؤمنين إنما هي مسألة وقت ومسألة تقدير إلهي.

 

نسأل الله عز وجل أن يعجل لنا بقيامها، ففيها الدواء لكل داء، وفيها العز والسؤدد، وفيها المنعة والرخاء، وفيها رضا الرحمن عز وجل. فهي ليست حلماً مستحيلاً، بل هي حلم حتمي الحصول قريبا إن شاء الله.

 

﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

د. فرج ممدوح

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة