الهجرة بداية التاريخ وصناعة تاريخ الخلافة

 

 

كانت الهجرة في الثاني عشر من ربيع الأول ولكن بعد مرور نحو سبعة عشر عاما على هجرة الرسول ﷺ في السنة الثالثة أو الرابعة في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، أمير البصرة آنذاك، كتابا يطلب فيه البحث عن طريقة جديدة لاحتساب التقويم، وذلك حينما ورد خطاب لأبي موسى الأشعري مؤرخ في شهر شعبان دون تحديد السنة، فخاطب الأشعري الخليفة عمر يقول: يا أمير المؤمنين تأتينا الكتب وقد أرخ بها في شعبان ولا ندري أي شعبان هذا، هل هو في السنة الماضية؟ أم في السنة الحالية؟ وبناءً عليه جمع الخليفة عمر الصحابة رضوان الله عليهم، وبحثوا في هذا الشأن فتفاوتت الآراء فمنهم من اقترح بأن يؤخذ بتاريخ مولد الرسول ﷺ كبداية للتقويم وبعضهم قال نأخذ بتاريخ وفاته، إلا أن الرأي الأغلب كان الأخذ بهجرته ﷺ. ثم استشار عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب في هذا الرأي فأقراه، فتم الاتفاق على اعتبار السنة التي هاجر فيها النبي ﷺ هي بداية التقويم، فاختير الأول من محرم بداية للسنة.

ففي التقويم الهجري عز للإسلام وقيام دولته، وانتشار رسالته واندحار الكفر ودوله، وهذا ما يغضب أعداء الإسلام ويزيدهم حنقا وغيظا عليه وعلى دلالته، وقد أصبح الهلال شعارا إسلامياً من هذا الباب.

المسيو بيدو، وزير خارجية فرنسا الأسبق عندما زاره بعض البرلمانيين الفرنسيين وطلبوا منه وضع حد للمعركة الدائرة في مراكش أجابهم قائلا: “إنها معركة بين الهلال والصليب”.

ومن الحقائق التي تمثلها وتركزها ذكرى الهجرة النبوية:

أولاً: جاءت الهجرة بعد طلب الرسول ﷺ النصرةَ أكثر من خمس عشرة مرة، وذلك بعد أن أجاب الأوس والخزرج النصرة، وبعد أن بعث الرسول ﷺ مصعبَ بن عمير ليُعلّمهم الإسلام، ثم كانت بيعة العقبة الثانية، بيعة الحرب. فكانت المدينة بذلك مكان قوة ومكان إقامة دولة الإسلام لا مكان الهروب والفرار.

فمن أوَّل يومٍ في الدَّعوة الإسلاميَّة المبارَكة والرسولُ ﷺ يعلَم أنَّه سيَخرُج من بلده مُهاجِراً؛ ففي حديثه مع ورقة بن نَوفَل عندما اصطَحبَتْه زوجُه خديجة رضِي الله عنها إلى ابن عمِّها، عندها قال له ورقة: “هذا النامُوسُ الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتَنِي فيها جَذَعاً، ليتَنِي أكون حياً إذ يُخرِجك قومُك، فقال رسول الله ﷺ: «أوَمُخرِجِيَّ هم؟!»، قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثْل ما جئتَ به إلا عُودِي، وإنْ يُدرِكْني يومُك أنصُرْكَ نصراً مُؤزَّراً، ثم لم ينشَبْ ورقةُ أنْ تُوفِّي”. ومن ساعَتِها عَلِمَ النبي ﷺ أنَّ الطريق غير ممهَّد، وليس مَفرُوشاً بالورود، بل محفوفٌ بالمخاطر والمهالك، وأنَّه مُخرَجٌ من مكَّة حَتماً لا مَحالة.

فالهجرة لم تكن نتيجة لتهديد حياة رسول الله ولم تكن فراراً ولا لجوءاً ولا طلباً للحياة والرزق، وليست غاراً ولا حمامة ولا حديثاً للمجالس، ولم يقف معنى الهجرة لدى المهاجرين عند حدود مفهوم النزوح أو اللجوء، فلم يكن المهاجرون هَمَلاً في قومهم ولا وضيعي النسب، ولا طالبي رزق وتحسين دخل، بل كانوا أصحاب دعوة مبدئية آمنوا بها، وخالط هذا الإيمان بشاشة قلوبهم، وتشبعت به نفوسهم؛ فملأ عليهم حياتهم، وهان كل شيء في هذه الحياة أمام إعلاء هذه الدعوة، فمن التفكير في المال أو الدار أو حتى الولد إلى الاستخفاف، وتأكدت هذه المعاني من خلال تواترها عند الصحابة، فهذا صهيب الرومي يساومه مشركو قريش عن ماله كله، لكنه يختار الانتصار لما في قلبه من إيمان، الله أكبر ما أعظمها من مواقف!

ولم يكن موقف الأنصار بأقل من إخوانهم المهاجرين في الانتصار للدعوة الإسلامية؛ فمنهم مَن بادر بعرض المنعة والحماية على الرسول ﷺ في بيعتي العقبة، وهم مَن أحسن استقبال المهاجرين، وهم مَن اقتسموا معهم القوت والدور، وهم مَن أنزلوهم منزلة صاحب الدار لا طالبي اللجوء والمواقف الإنسانية، بل الجميع يدرك أن دولة الإسلام هذه طرازٌ فريد جديدٌ رحمة من رب السماء والأرض للإنسانية جمعاء تخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

ثانياً: عندما وصل الرسول ﷺ المدينة وضع بنود دستور دولة الإسلام، وحدد العلاقات بين اليهود والمسلمين، وبين المسلمين أنفسهم، ثم أنشأ سوقاً للمسلمين.

وبذلك كانت دولةً ترعى شؤون الناس، وتُطبق الإسلام، ثم أصبحت دولةً تنافس دولة قريش، ثم أسقطت قريش، ثم قويت وهزمت أعتى حضارتين كانتا موجودتين آنذاك؛ الفرس والروم.

فكانت الهجرة هي الحدث السياسي الأبرز في تاريخ الإسلام والمسلمين على الإطلاق، ذلك لأنه لم يكن للمسلمين دولة ولا كيان، والإسلام لا يقوم بدون طريقته والأحكام لا تطبق بدون دولة، فالإسلام ليس ديناً كهنوتياً ولا بشرياً، ولا فكرة جميلة تدغدغ المشاعر، بل الإسلام دين منه الدولة، مبدأ وله طريقة، وطريقته هي تلك الدولة التي أقامها رسول الله ﷺ، وهذه الطريقة ليست رواية؛ بل هي منهاج عمل واجبة على المسلمين.

ثالثاً: أمرنا الرسول ﷺ بعدم الخروج عن هذا النظام، وشكل هذا النظام الذي وضعه، فقال: «كَانَت بَنُو إسرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبياءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، وَإنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي، وسَيَكُونُ بَعدي خُلَفَاءُ فَيَكثُرُونَ، ففُوا بِبَيعَةِ الأَوَّلِ فالأَوَّلِ، ثُمَّ أَعطُوهُم حَقَّهُم، وَاسأَلُوا الله الَّذِي لَكُم، فَإنَّ الله سائِلُهم عمَّا استَرعاهُم».

رابعاً: استمرت هذه الدولة وحافظ عليها المسلمون من عهد أبي بكر إلى عهد آخر خليفةٍ عثمانيّ، رغم ما اعتراها من ضعف في بعض الفترات.

وفي 28 رجب 1342 الموفق 3/3/1924م، هُدمت الدولة التي أنشأها رسول الله ﷺ، وأُلغي تطبيق الإسلام وأصبح المسلمون يُحكمون بالكفر.

إنه مما يجب إدراكه في ذكرى الهجرة، أن على المسلمين أن يقتدوا بنبيهم، وأن يقيموا دولة الإسلام كما بناها. وأن يعملوا لإعادة تحكيم شرع الله كما أمر، واثقين بوعد الله سبحانه القائل: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾. ومستبشرين ببشرى رسول الله ﷺ: «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ».

فالهمة الهمة أيها المسلمون والعمل الجاد المجد لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة لصناعة تاريخ جديد لأمتكم وللعالم.

﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللهِ لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ

كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

عبد الله حسين (أبو محمد الفاتح)

منسق لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية السودان

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة